«يا خبر»
اسمحوا لى ان أنعى لحضراتكم المرحوم -إن شاء الله- المدعو القانون الدولى, فعندما يكون التحدى الأهم فى القرن الواحد والعشرين هو كيف تحافظ الدول على سيادتها؟ وكيف تواجه خطر أن تباع أو تشترى من قبل سماسرة العالم الجدد؟, فهذا معناه بكل تأكيد موت القانون الدولى وانتهاء صلاحية مؤسساته, بما فيها الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية وكل الأجهزة التى تنادى بتطبيق القوانين وحماية الدول كأشخاص اعتبارية فى المجتمع الدولي, ومعناه أيضا أن قرونا طويلة من الحداثة والمدنية ضرب بها عرض الحائط وعدنا إلى شريعة الغاب, القوى من يقدر وليس من يملك, أو بالمعنى المتعارف عليه «البقاء للأقوي», فإنت كنت تمتلك الموارد ولا تمتلك القوى لحمايتها فأنت معرض للسرقة من لصوص العالم الجدد.
قبل أيام دارت ماكينة تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والتى تعمل بكفاءة شديدة رغم أن الرجل لم يكمل شهرا فى البيت الأبيض, لكنه لا يتوقف عن التصريحات, والحقيقة ليست المشكلة فى كثرة تصريحاته ولكن فى كونها فى معظمها ضد المنطق وتقريبا لا تجد أى قبول لدى الغالبية العظمى على المستوى العالمى, فباستثنائه هو شخصيا والقلة القليلة المنتفعة مثل اليمين المتطرف فى إسرائيل على سبيل المثال, لا أحد يقبل أفكار وخطط دونالد ترامب, إليك مثلا ما قاله من أنه يريد شراء جرينلاند، وأنه سيستولى على قناة بنما، ويبنى جدارًا على حدود المكسيك، ويغير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا, وأنه يتمنى أن تصبح كندا ولاية أمريكية، وأخيرًا يعلن أنه سيستولى على غزة، تارة يقول سنشتريها وتارة يقول سنستولى عليها ونبنى مساكن نبيعها للعالم، الرجل يتحدث كسمسار أو تاجر عقارات يركز على الربح، وكل تحركاته تهدف إلى حماية مصالحه, كل تصريحاته وتصرفاته التى تبدو ضربًا من الجنون هى فى الحقيقة جزء من خطة مدروسة يريد بها امتلاك أوراق تفاوض للحصول على المزيد من التنازلات وهذا مبدأ رائج لدى التجار فى صفقاتهم وتعاملاتهم, وهذا يؤكد أن العالم بأكمله أمام أزمة سياسية خطيرة، إذا كان هذا هو تفكير رئيس أقوى دولة فى العالم
عودة إلى الجزء الخاص بتصريحاته التى يريد فيها أن يستولى على دول, السؤال الذى يطرح نفسه: هل الرئيس الأمريكى لا يعلم أن هناك شيء اسمه القانون الدولى ينظم العلاقات بين الدول ويحميها؟ أم أنه يتعامل وكأنه يعيش وحده فى هذا العالم, وأنه فوق القانون الدولي؟ وفى السياق نفسه مثلا قال إنه سيرسل جميع الفلسطينيين من غزة إلى الأردن ومصر، بعض النظر على الفلسطينيين سيقبلون أو يرفضون وبغض النظر عن مواقف الدول التى قال أنه سيرحل إليها الفلسطينيين تقبل أم ترفض وكأنه يتعامل مع مجموعة من الأطفال القصر وليس دولة كبيرة صاحبة سيادة!, ثم بعد عدة أيام قال «إننا سنخصص مكان فى مصر ليقيم فيه سكان غزة», والسؤال التالى من أنتم؟ بصوت الراحل معمر القذافي, ترامب يتعامل كأن غزة أرض لا صاحب لها وسيتملكها أو يشتريها أو يستولى عليها عنوة والعالم وقوانينه فى غفلة, أو كأن مصر هذه ليست دولة قومية كبيرة صاحب سيادة حتى يقول سيخصص قطعة أرض فيها دون موافقة الدولة المصرية, بأى صفة يتحدث.
ولأن مصر دولة قوية وصاحبة سيادة كانت كلمتها حاسمة قاطعة واصفة تهجير الفلسطينيين بأنه ظلم لا ولن تشارك فيه ووقفت مصر حائط صد أمام مخطط التهجير حماية للقضية الفلسطينية من ناحية وحماية لأمنها القومى من ناحية أخرى
الرئيس الأمريكى الذى قال وهو يؤدى اليمين الدستورية أنه جاء من أجل السلام, يفعل العكس تماما, فيؤيد توغل إسرائيل فى الضفة الغربية وضمها ويدعو إلى إخلاء غزة من أصحابها وهذا فى حد ذاته أكبر عقبة أمام السلام فى المنطقة بما فيها معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التى وقعت فى عام 1979، وتنص على احترام سيادة الدول وعدم تغيير الأوضاع الجغرافية أو الديموغرافية بالقوة، كما أن ما يريده ترامب يتناقض مع اتفاقية أوسلو 1993 الموقعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتى تعترف بحق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم على أراضيهم واتفاقيات جنيف التى تحظر الترحيل القسرى للسكان، وتعتبر ذلك جريمة تظهير عرقي, ويتعارض أيضا مع قرارات الأمم المتحدة التى تدعم حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم وترفض أى محاولات لتهجيرهم.
الرئيس الأمريكى بدلا من البحث عن حل سياسى شامل للقضية الفلسطينية بدعم حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيه 1967 يعمل فى اتجاه القضاء تماما على فكرة إقامة دولة فلسطينية
الرئيس ترامب الذى بات يشبه نجوم التريند كل ليلة على وسائل التواصل الاجتماعي, تجاوزت تصريحاته كل حدود الدبلوماسية ويتعمد أن يشغل العالم بأفكاره المجنونة وكأن هناك من أخبره أن القانون الدولى مات.