في مثل هذا اليوم الخامس من يناير عام 1920، شهدت مصر حدثا ثقافيا غير عادي، افتتاح دار الكتب المصرية، التي أصبحت لاحقا المكتبة الوطنية لمصر.
هذا اليوم لم يكن مجرد افتتاح لمبنى يحوي رفوفا من الكتب والمخطوطات، بل كان لحظة تاريخية أسست لمسيرة حضارية غنية بالعلم والمعرفة، ومسيرة مصرية وطنية صممت على أن تحفظ تراثها وتقدمه للأجيال القادمة.
دار الكتب لم تكن مجرد مكان لتخزين الكتب، بل كانت قلب الثقافة النابض، وملتقى الباحثين والمثقفين، ومصنعا للأفكار التي تصنع وعي الأمة وتغذي روحها الوطنية.
منذ تأسيسها، أخذت دار الكتب على عاتقها مهمة عظيمة وهي حفظ التراث المصري والعربي، من المخطوطات النادرة إلى الكتب القديمة، لتصبح جسرا يربط بين الماضي والحاضر، ولتضمن أن التاريخ لا يضيع، وأن المعرفة لا تختفي.
فالمكتبة لم تكن مجرد مكان للقراءة، بل كانت مدرسة للحياة والثقافة، تعلمنا منها أن العلم والمعرفة هما أساس أي مجتمع متقدم، وأن الوطن بدون ثقافة ومعرفة هو وطن ناقص، يفتقد لروحه وهويته.
لقد وفرت دار الكتب المصرية للباحثين والطلاب كل ما يحتاجونه من مصادر علمية وأدبية، وأتاحت لهم دراسة المخطوطات والوثائق النادرة التي تحمل عبق التاريخ وروح الحضارة المصرية.
ومن خلال هذه المصادر، تعمق الوعي الوطني، وفهمنا أن الهوية لا تبنى على الجغرافيا وحدها، بل على الثقافة والذاكرة الجمعية، وعلى تقدير ما تركه لنا الأجداد من علم وفكر وفن.
وهذا ما يجعل المكتبة أكثر من مجرد مكان للقراءة، فهي رمز للحضارة المصرية الحديثة، تجسد اهتمام الدولة بالعلم والثقافة، وتؤكد على أن مصر بلد العقل والمعرفة قبل كل شيء.
شخصيا، تعلمت في صغري على قيم مدرسة الوفد، التي علمتني حب الوطن حبا صادقا، وحب تراب الوطن وكرامته، تعلمت أن نعتز بماضينا ونصون حاضرنا، وأن العمل من أجل الثقافة والمعرفة هو عمل وطني بالمعنى الحقيقي.
وكان للدار أثر كبير على تشكيل هذا الوجدان، لأنها منحتنا شعورا بالانتماء، وشعورا بأن العلم والمعرفة هما السبيل للحفاظ على كياننا وهويتنا.
دار الكتب المصرية لم تقتصر على جمع الكتب وحفظ التراث، بل فتحت أبوابها لكل من يبحث عن الحقيقة، وكل من يسعى للفكر الحر والمعلومة الدقيقة.
لقد أصبحت منارة للبحث العلمي، ومصدرا للإلهام لكل مثقف أو طالب، ومكانا يلتقي فيه الماضي بالحاضر ليخطط لمستقبل أفضل، ومن هنا، يظهر دور المكتبات كمؤسسات وطنية لا غنى عنها، لأنها ليست مجرد مخازن للكتب، بل مصانع للوعي، وأدوات لبناء مجتمع واع ومثقف، قادر على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
الذكرى السنوية لافتتاح دار الكتب المصرية هي فرصة لنتذكر أهمية الثقافة في بناء الأمة، ولنعيد التأكيد على أن المعرفة ليست ترفا، بل هي أساس التنمية والتقدم، وأن الحفاظ على التراث واجب وطني قبل أن يكون علميا أو ثقافيا.
كما أنها تذكرنا بأن المؤسسات الوطنية، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، لها دور جوهري في نشر العلم والبحث والإبداع، وأن الاستثمار في المعرفة يعني الاستثمار في مستقبل الوطن.
كل مرة أزور فيها المكتبة، أشعر بارتباط عميق بالهوية المصرية وبالأرض التي أعيش عليها، أشعر أن حضارة مصر مستمرة فينا، وأن كل كتاب أو مخطوطة تحمل رسالة تقول؛ لا تنسوا من أنتم، لا تنسوا من أين أتيتم، واصلوا التعلم، وواصلوا بناء وطنكم. وبالنسبة لي، هذا الشعور كان جزءا من تكويني، جزءا من حبي العميق لمصر، حب ينبع من قلب الثقافة ومن دفء الكتب والمخطوطات التي تحمل صدى أجيال مضت، وتوجهنا إلى المستقبل.
في النهاية، دار الكتب المصرية ليست مجرد مؤسسة، وليست مجرد مبنى، بل هي روح مصر الثقافية، وجسرها إلى المستقبل، وملهمها لكل من يؤمن أن المعرفة هي الأساس، وأن الوطن يبدأ من تقدير تراثه وحماية هويته، وأن كل واحد منا يمكن أن يكون جزءا من هذه المسيرة العظيمة.
ولذلك، في كل ذكرى افتتاحها، نحتفل ليس فقط بتاريخ مكتبة، بل بتاريخ مصر نفسها، بتاريخ عقلها وقلبها وروحها، ونجدد العهد بأن نواصل التعلم، ونواصل العطاء، ونواصل الحفاظ على وطن يستحق كل هذا الحب والتقدير.