بعد ثلاثة أيام سنحتفل بذكرى ميلاد نجيب محفوظ، ذلك الاسم الذى لم يكن مجرد كاتب عظيم، بل كان ضميرا حيا للوجدان المصري وذاكرة لأمة بأكملها. في كل مرة نقترب فيها من سيرته، نشعر أننا نقترب من أنفسنا، من شوارعنا القديمة، من أصوات الباعة، ومن حكايات الناس الذين عاشوا بين الحلم والخذلان، بين الطموح والواقع.
ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر عام 1911 بحي الجمالية، ذاك الحي الذى ظل يسكنه في قلبه حتى بعد أن غادره جسدا، لأنه ظل جزءا من نسيج روحه، كما ظل هو جزءا من ملامح القاهرة ووجدانها.
وأنا أتأمل سيرة نجيب محفوظ، أشعر أن الحديث عنه ليس حديثا عن شخص، بل عن هوية، فقد كان محفوظ ابنا بارا لمصر، كما كان شاهدا أمينا على تحولاتها.
لم يكن مجرد راو للحكايات، بل كان مؤرخا لروح الوطن، يرسمها بحبر من الصدق والوعي والوجدان، في كل رواية كتبها نجيب محفوظ، نجد مصر، في "الثلاثية" نجد تاريخها، وفي "زقاق المدق" نسمع همسات شوارعها، وفي "اللص والكلاب" نواجه تناقضاتها، وفي "أولاد حارتنا" نرى صراع الإنسان الأبدي بين النور والظلام.
كنت دائما أرى أن نجيب محفوظ هو المعنى الحقيقي لما نسميه “الهوية المصرية”، لم يتعمد صنعها، بل عاشها ببساطتها وعمقها، لم يكتب شعارات عن الوطن، بل كتب عن الناس الذين يصنعون الوطن؛ الموظف الصغير، الأم الطيبة، الحارة الضيقة، والبيت الذى يتقاطع فيه الدعاء مع الحلم.
تلك التفاصيل التي بدت بسيطة هي في الحقيقة جوهر الشخصية المصرية، تلك التي تبتسم رغم التعب، وتؤمن رغم الخيبة، وتواصل رغم كل شيء.
حين أقرأ محفوظ أشعر أنني أتنفس هواء القاهرة، وأسمع ضجيجها ودفء ناسها، كأن أدبه يوقظ في داخلي حبا متجددا لتراب هذا البلد، وأنا ابن مدرسة الوفد، تربيت على حب الوطن لا كشعار يرفع، بل كقيمة تعاش.
تعلمت أن الوطن ليس مجرد حدود على الخريطة، بل إحساس يسكن القلب ويمنحنا القوة لنصمد ونحلم ونبني، ذلك الإحساس الذي غرسه محفوظ فينا دون أن يخطب أو يرفع صوته، بل بكلماته الهادئة التي تحمل ألف وجع وألف أمل.
ما يدهشني في أدب نجيب محفوظ أنه لم يكن مجرد انعكاس للواقع، بل كان فعلا من أفعال الإبداع الذي يعيد تشكيل الواقع، لم يكن يصف المجتمع كما هو فقط، بل كان يضع أمامنا مرآة نرى فيها أنفسنا كما يجب أن نكون.
جعلنا نفكر، ونتأمل، ونسأل: لماذا وصلنا إلى هنا؟ وكيف يمكن أن نكون أفضل؟ كانت رواياته دعوة دائمة للوعي، للحرية، للعدل، وللكرامة الإنسانية، لم يكن واعظا، بل فنانا يوقظ وعينا من دون أن يفرض رأيه.
في منتصف القرن العشرين، حين كانت مصر تمر بتقلبات سياسية واجتماعية كبرى، ظهر محفوظ كصوت الحكمة والتأمل، لم يندفع وراء الشعارات، بل غاص في أعماق الإنسان.
كتب عن الصراع الداخلي قبل أن يكتب عن الصراع الخارجي، عن الخوف قبل الثورة، وعن الحلم بعد الانكسار، ولهذا ظل أدبه حيا، لأنه تجاوز اللحظة إلى الفكرة، والحدث إلى الوجدان.
أذكر أن فوزه بجائزة نوبل عام 1988 لم يكن فخرا له وحده، بل لمصر كلها، كأن العالم أخيرا اعترف بأن القاهرة، التي كانت تروى على صفحات رواياته، تستحق أن تروى للعالم بأسره، كانت نوبل تتويجا لمسيرة أديب حمل هموم الناس في قلبه، ووضعها على الورق بنزاهة وصدق نادرين.
واليوم، ونحن نقترب من ذكرى ميلاده، لا أراه مجرد مناسبة للاحتفال بكاتب كبير، بل فرصة للتأمل في معنى الإبداع، وفي دور الأدب في تشكيل وعينا الجمعي.
فالإبداع في نظر نجيب محفوظ لم يكن ترفا فكريا، بل كان وسيلة للبقاء، وللمقاومة، وللحفاظ على جوهر الإنسان وسط ضجيج التغيرات، إن الرواية عنده كانت مثل النيل: تجري بهدوء، لكنها تغذي أرضنا ووعينا معا.
إن ما يجعل أدب نجيب محفوظ خالدا ليس فقط جمال لغته أو دقة وصفه، بل صدقه الإنساني، لقد آمن بأن الكاتب الحقيقي هو من يكتب ليضيء للناس طريقهم، لا ليبهرهم ببريقه الشخصي، وحين نقرأه اليوم، نجد أنفسنا أمام مرآة هوية ما زالت تبحث عن ذاتها، بين التراث والحداثة، بين الأصالة والتغيير.
وأعتقد أن نجيب محفوظ لم يكن مجرد أديب نال نوبل، بل كان ضمير وطن بأكمله، استطاع بالكلمة أن يمنحنا وعيا بأن الهوية ليست مجرد ماض نحتفي به، بل مسؤولية نحافظ عليها ونطورها.
لقد علمنا أن الأدب الحقيقي لا يعيش في الأبراج العالية، بل في قلب الشارع، بين الناس، حيث تكتب الحكايات الحقيقية وتولد الأحلام الكبرى.