في مثل هذا اليوم، الثاني عشر من مارس، أجد نفسى كل عام واقفا أمام بوابة التاريخ، لا كقارئ فحسب، بل كشاهد يشعر بأن بعض الأيام تظل معلقة فوق الزمن، لا ترضى أن تمر كغيرها، ولا يسمح وجداننا أن نتعامل معها باعتبارها مجرد رقم فى التقويم.
هذا اليوم تحديدا يحمل ثقل الذاكرة المصرية بكل ما فيها من نضال ومقاومة وكرامة، ويعيد إلى ذهنى وإلى قلب كل مصرى نبض أمة لم ترضخ يوما لمحاولة تطويع إرادتها أو تدجين صوتها.
وفى كل مرة يعود فيها 12 مارس أتذكر أن الوطن له مواعيد ثابتة مع الاختبار، وأن الشعب المصرى، برغم الجراح والعثرات، لم يترك يوما ساحات الدفاع عن حقه فى الحياة الحرة.
كان 12 مارس 1925 واحدا من تلك الأيام التى حاول فيها البعض أن يكتبوا تاريخا غير الذى أرادته الأمة، يوم جرت فيه انتخابات برلمانية وضعت لها ترتيبات لم يخف هدفها على أحد: ضرب حزب الوفد الذى كان يمثل وقتها صوت الأغلبية الساحقة من المصريين تحت زعامة سعد زغلول.
قبل هذا الموعد بأسابيع، شهدت مصر موجة واسعة من العبث بالدوائر الانتخابية، حتى تم تعديل 106 دوائر من أصل 214، فى محاولة مكشوفة لتحويل النتائج إلى ما يخدم رغبة القصر والحكومة، وإقصاء الوفد عن مقاعد كان من المتوقع أن يحصدها بسهولة لولا هذا العبث.
ومع ذلك، وبرغم كل محاولات الترويض، ظل الوفد هو الحزب الذى يخشاه خصومه ويحتمى به الناس، ظل صوت الجماهير الذى لا يشترى ولا يستبدل، صوتا خرج من أزقة القاهرة وريف الدلتا وصعيد مصر ليقول إن أمة ولدت من رحم ثورة 1919 لا يمكن كسر إرادتها بمجرد تعديل دوائر أو تخويف أو دعاية سوداء.
وما كان للوفد أن يبقى هذا الحزب الجارف لولا جذوره التى نبتت من دموع الشعب ودمائه فى ذلك اليوم التاريخى، يوم 8 مارس 1919، حين امتدت يد السلطة البريطانية لتعتقل سعد زغلول ورفاقه وتنفيهم إلى مالطا.
تلك الشرارة لم تكن مجرد واقعة سياسية، بل كانت صفعة أيقظت كل مصرى يشعر بالغضب المكبوت، فاندلعت الثورة فى كل ربوع البلاد دون تخطيط أو أوامر؛ كانت ثورة من قلب الشعب للشعب.
ولأن الأيام تدور ومعارك الحرية لا تنتهى، جاءت سنة 1925 لتشهد مشهدا غير مسبوق، ليس فقط فى مصر بل ربما فى العالم كله: مجلس نواب ينتخب ثم يحل بعد تسع ساعات فقط من انتخاب سعد زغلول رئيسا له.
تسع ساعات! كأن الزمن نفسه ضاق بنبض الحق، فأسرع الاستبداد إلى إغلاق الباب قبل أن يتسرب الضوء، كانت الحكاية تبدأ باستقالة سعد من رئاسة الوزراء عقب فشل المفاوضات مع بريطانيا فى نوفمبر 1924، ثم حل البرلمان، ثم التعديلات الواسعة للدوائر استعدادا لانتخابات 12 مارس التى أرادها البعض بلا وفد وبلا سعد، ومع ذلك، وعلى الرغم من كل ما جرى، حصل الوفد على 116 مقعدا، بينما توزعت بقية المقاعد بين المستقلين وحزب الحكومة.
وفى 23 مارس انعقد المجلس الجديد، وأمام دهشة الجميع خاض سعد زغلول انتخابات رئاسة المجلس، ليهزم مرشح الحكومة عبد الخالق ثروت ب 123 صوتا مقابل 85.
كان هذا الفوز أقرب إلى تهديد مباشر لكل من أراد الحياة النيابية مجرد ديكور، لم يكد النواب ينتهون من اختيار الرئيس والوكيلين والسكرتارية حتى فوجئوا بقرار حل المجلس؛ لم تمهلهم السلطة أكثر من ساعات قليلة، وكأنها تخشى أن يتحول البرلمان إلى منصة للشعب، لا موضعا للديكور السياسى، وهكذا سجل التاريخ أن مجلس النواب المصرى عام 1925 كان الأقصر عمرا على الإطلاق.
مثل هذه الوقائع لا تقرأ فقط فى كتب السياسة، بل تقرأ فى روح أمة، مصر - على مدار تاريخها - لم تكن تتعامل مع الظلم كواقع أبدى، ولا تقبل بأن يختطف صوتها تحت أى ظرف.
ولهذا، ظلت هذه الأحداث محفورة فى ذاكرة المصريين، ليس لأنها مجرد صراع بين أحزاب أو مؤسسات، بل لأنها تجسيد لمعركة أعمق: معركة إرادة شعب يريد أن يكتب مصيره بنفسه.
ولعل ذلك ما يفسر لماذا بقيت ثورة 1919، والوفد، ونضال زعمائه، جزءا أصيلا من الضمير المصرى حتى اليوم، ولماذا يحتفل الوفد الحديث كل مارس بذكرى الثورة ومئوية تأسيس الحزب، كأن هذا الشهر هو الشهر الذى يوقظ الروح الوطنية من أعماقها.
ولأن مصر تصنع رجالها كما يصنع رجالها تاريخها، فإن هذا اليوم لا يحمل فقط ذكريات سياسية، بل يحمل عبق الثقافة المصرية، 12 مارس أيضا يذكرنا برحيل عملاق الأدب والفكر عباس محمود العقاد عام 1964، ذلك الرجل الذى صاغ وجدان أجيال بكلماته، وأثبت أن الكلمة قد تكون سلاحا يضاهى البندقية فى قوة تأثيره.
وفى كل مرة أتوقف أمام هذا التاريخ أشعر أن مصر تهدى أبناءها رموزا تليق بها سياسيا كسعد، وفكريا كالعقاد، وربما يفسر هذا الشعور لماذا يترك هذا اليوم فى قلبى أثرا خاصا، كأن بينى وبينه صداقة قديمة أو موعدا لا يتخلف.
إن تأمل ما حدث فى 12 مارس لا يجعلنا نغوص فى التاريخ لمجرد التذكر، بل يجعلنا نعيد اكتشاف معنى الوطن ومعنى النضال ومعنى أن تكون مصريا، هذا البلد قاوم الاحتلال، وقاوم التزوير، وقاوم الاستبداد، وقاوم كل من حاول أن يطفئ صوته.
ومهما اختلفت الأزمنة وتبدلت الوجوه، يبقى المصريون ثابتين على حقيقة واحدة إن الحرية حق، وإن الصوت لا يموت، وإن التاريخ مهما حاول البعض تشويهه، سيظل يروى الحكاية الصحيحة فى النهاية.
وهكذا، فى كل عام يعود 12 مارس، فأجد نفسى أقف أمامه كأنى أقف أمام مرآة، أرى فيها مصر كما أحبها بلاد لا ترضى القهر، وشعب لا يكسر، وذاكرة لا تنسى، وروح تعرف دائما الطريق إلى الضوء مهما تعرضت للظلال.