رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حكاية وطن

«فى ليلة حالكة السواد»، شديدة البرد، خرج ستة من المصريين يتقدمهم رجل كأن الله خلق الاستقامة من قوامه، والهيبة من وقع أقدامه، رجل توّجه الشيب شيخا جليلا، فبلغ من العمر كثيرا، ولم يبلع منه العمر كثيرا ولا قليلا، هذا الرجل هو سعد زغلول، وكان بجوار سعد رجل مد إلى الأمام صدره، كان يرى فى عينيه فكرة عدو يتحداه ولا يخشى خطره، وهذا الرجل هو مصطفى النحاس، وإلى جوارنا ثلاثة اختارهم الله قبلنا إلى خير الجوار، هم المغفور لهم المُبكى عليهم عاطف بركات باشا وسينوت حنا بك وفتح الله بركات باشا، وكان حولنا نحن الستة ضباط وجنود من الانجليز، فسرنا وساروا معنا من معسكر الجيش الانجليزى فى السويس إلى ميناء السويس فى طريقنا إلى المنفى البعيد، إلى المجهول المجيد!

هكذا يتحدث مكرم عبيد عن منفى جزيرة سيشل، وهى إحدى جزر المحيط الهندى، الذى اعتقل فيه الانجليز سعد ورفاقه.

ويواصل: ولما وصلنا الميناء وجدنا زورقا أعدته السلطة العسكرية الانجليزية لنقلنا إلى الباخرة فى وسط البحر، فركبنا الزورق الصغير ولم يكن فيه إلا نحن الستة وعدد كبير من الضباط والجنود الانجليز، وبحار مصرى واحد بجوار الدفة.. وبينما نحن فى الزورق فى طريقنا إلى الباخرة سمعنا فى سكون الليل هامسا محتبسا، فنظرنا وإذا بالبحار المصرى الجالس بجوار الدفة قد وضع رأسه بين يديه وهو يبكى بكاء مرا.

نظرنا إليه ونحن لا نكاد نملك حواسنا، ونظرنا فإذا بالضباط الانجليز مطرقو الرؤوس خاضعون أمام هذا البكاء الطاهر الملىء بالمعانى.

بكى الرجل فسرى البكاء منه إلى نفوسنا، حتى ذهبت شعاعا وانحدرت دموعا.. فوالله لقد أحسسنا أن مصر، وقد رأت قائدها وأركان حربه مأسورين، قد بكت فى هذا الرجل أسرها، وتوسلت به إلى الله تطلب نصرها.

بكى الرجل فاقترب إليه أحدنا وحاول أن ينفحه مبلغا من المال يعينه على عيشه، فرمى الرجل بالمال من يده وكأنه نار تحرقه، رافضا أن يأخذ لبكائه ثمنا، وأن يستعيض عن شعوره مالا أو بدلا.

لا أذكر من اسم هذا الرجل إلا أنه «محمد» ولكنى أعرف أن الوطن تجسد فى «محمد» وأنى ما حييت سأذكر أن «محمدا» بكانى وأن «محمدا» أخاني!

وفى سيشل، الجزيرة النائية، القائمة وسط الأوقيانوس العظيم، الحارة الرطبة فى آن واحد، تلك الجزيرة الخاملة التى اشتهرت بسعد كما كانت جزيرة القديسة «هيلانة» فى المحيط الأطلسى، على الجانب الآخر من أفريقيا خاملة فاشتهرت بنابليون، تبارى الحب فى مبالغة الإيثار، وتنافس الإخاء فى إنكار الذات، وتزاحم الإخلاص على التضحية، وتدافع الوفاء عن الحاجة إلى التلبية، وفى سيشل تلك القطعة النائية فى بهرة المحيط، اجتمعت فى ستة أصدقاء أخوة أعزاء أبرار، كل الأسنان ومختلف الأعمار، شيخوخة وكهولة وشباب، كلها فى ذاتها متفانية، وكلها على بعضها حانية، والجميع تسرى عنهم أشد الألم روحانية عميقة مواسية، فهم فى سياحة من سياحات النفوس، مهما تلقى من عذاب، ومهما تصادف من محن وأحوال وخطوب، نجد عزاءها البليغ فى رفقتها، وسلوتها الحاضرة، فى شركتها، وكلما كان الخطب موزعا هان، وكلما كان الألم مشتركا راح المحتمل اليسير.

فى سيشل جرت قصة من أروع القصص، قصة الحب الإنسانى فى أسمى مراتبه، وعليا درجاته، وأروع صوره وآياته، وهو الحب الأخوى فى خاصة ذاته، والحب الوطنى فى عمومياته، وقد تلاقى الحُبان فى نفوس ستة أبطال شجعان، فعرفوا بذلك الحب المزدوج العظيم كيف يصبرون لأشد الألم، ويتجلدون لأقسى العيش، ويصمدون لأعنف البلاء والامتحان.

إن ذكريات سيشل لتذخر بأعجب الأمثلة على الإنسانية الرفيعة إذ تمتحن بالألم، وعلى الأخوة الوفية إذ تبتلى بالشدائد، وعلى الرفقة فى العذاب إذ تبتسم للعذاب، وعلى النفوس العالية كيف يزيدها تقاسم الآلام علاء.

لقد كانت أيام سيشل عهد كرب ونكد، وصبر وتجلد، وأرق وتسهد، ولكن كانت أيام مجد لـ«سعد» وأصحاب «سعد»، وقد اندمج هذا المجد فى معانى الخلد، بالنسبة للذين رحلوا من هذه الحياة بعد سعد وبقى هو قائما إلى اليوم لمصطفى ومكرم، هو جوازهما إلى كل قلب، ومدخلهما على كل نفس وسبيلهما إلى كل عاطفة.

فعلا.. لقد أثبت الزمن أن الوفد عقيدة تتفانى فيها الأشخاص، وتختفى فيها الفردية، ويبرز فيها الإجماع فكان ذلك كله هو سر قوتها وباعث جلالها وروعتها.