يأتى الباحث الغربى إلى بلادنا مسلحًا بكل أدوات البحث الأكاديمى من نظريات وطرق البحث وجداول البيانات، ومعه الدعم العلمى والمالى، وينشر دراساته عن مجتمعاتنا وقضايانا، ويصدر كتبًا بعنوانين مثل Life among the Poor of Cairo (حياة فقراء القاهرة)، ويحلّل آخر مشاكل اجتماعية مثل النسبة العالية للطلاق والظلم الواقع على المرأة والتعصب ضد الآخر، وقضايا أخرى.
وأنا أسأل هنا: هل نعرف باحثًا عربيًّا واحدًا أرسلته جامعة عربية إلى الغرب لكى يدرس الفقر فى حوارى بروكلين فى نيويورك أو إدمان المخدرات فى بريكستون فى جنوب لندن؟ أو العنف الأسَرى فى باريس؟
ربما لن تجده؛ لأن القوى هو الذى يَدْرس الضعيف ويزداد القوى قوة، ويكتسب بعلمه حقّا منفردًا فى تمثيلنا فى حقول المعرفة فى العالم.
والدراسات المعتمدة لبلادنا قام بها علماء غربيون بداية من كتاب «وصف مصر» لعلماء الحملة الفرنسية، مرورًا بعلم المصريات Egyptology وحل طلاسم الهيروغليفية وحتى الكشف عن آثارنا القديمة وتاريخنا وصنع خرائط بلادنا.
لكننا تداركنا هذا النقص فى معلوماتنا عن الغرب وأرسلنا ونرسل طلابنا وطالباتنا فى بعثات علمية إلى الغرب، بداية من بعثات محمد على وما تلاها، والتى أنتجت كتبًا لكبارٍ من أمثال رفاعة الطهطاوى وطه حسين ولويس عوض وحسين فوزى وآخرين.
وماذا عن إسرائيل والمجتمع الإسرائيلى والثقافة والآداب واللغات والفنون فى إسرائيل؟
منْ مِن بين مثقفى بلادنا قرأ رواية لشموئيل عجنون، الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب عام 1966، أو لعاموس عوز أو أ.ب. يهوشوع؟ أو قصيدة لحاييم بياليك أو ليهودا عميحاي؟ أو شاهد فيلمًا إسرائيليًّا بعبرية مترجمة؟ أو يعرف اسم أى من الرسّامين أو المغنين المشهورين هناك؟ أو درس ما يدرسونه عن بلادنا وتاريخها ولهجاتها وآدابها وفنونها والشخصية العربية وتطورها وكيفية فهمها؟
لا عجب إذن أن نجد أنّ ما ينتجه الأكاديميون والباحثون الإسرائيليون فى مراكز ال Think Tank من معرفة عنّا كانت تخدم عملياتهم فى جبهات القتال معنا وتحقق لهم الانتصار فى الحروب الماضية والنجاح فى العلاقات الدبلوماسية فى الفترة الآنية.
والجامعة والمؤسسة الاستخبارية فى إسرائيل صنوان لا يفترقان، فدراسات واستنتاجات الأولى تسخّر لخدمة أغراض الثانية وتساعدها على فهم العرب وكشف نقاط ضعفهم، ومن ثمّ الانتصار عليهم فى جبهات القتال والدبلوماسية.
ونحن؟ ماذا نعرف عن إسرائيل؟
كانت مقاطعة إسرائيل نهجًا صارمًا ولاتزال، ونرى المقاطعة الشعبية وحظر ما يسمى بالتطبيع معها.
لقد حرّمنا على أنفسنا معرفة من حاربناهم لعقود، وجعلنا الجهل بما هو إسرائيلي-يهودى فضيلة، وكنا نمنع دخول الكتب والدراسات عن إسرائيل ونحذف المادة الخاصة بإسرائيل والصهيونية فى الموسوعات الغربية. والآن نجد ما يسمى «موسوعات» عن الصهيونية واليهودية تحوى الكثير من المغالطات وتتسم بروح عدائية؛ كتابات دون المستوى الأكاديمى ولا تقبلها أى جامعة فى العالم الغربي؛ مؤلفوها لايعرفون العبرية (ناهيك عن اليديشية أو اللادينو) ويبدأون بالاستنتاج وتأكيد صحة المتداول بين عامة الناس، بل وبالنفور من موضوع البحث ذاته.
بالمقابل نجد أن الإسرائيليين يدرسون بنشاط حثيث كل جوانب تاريخنا ومجتمعنا العربى، ويستمتعون بأفلامنا وأغانينا –ويدرسونها—ويوثّقون تاريخ الآداب والسينما والفولكلور العربى. وأول ترجمات بالإنجليزية لكتب توفيق الحكيم كانت رواية يوميات نائب فى الأرياف لأبا ايبان الذى عمل وزيرًا للخارجية الإسرائيلية، وأول دراسة أكاديمية عن نجيب محفوظ (بالإنجليزية Changing Rhythm 1973) نشرها ساسون سوميح، أستاذ الأدب العربى فى جامعة تل أبيب.
نعم، «science potentia est» المعرفة هى قوة، كما قال فرنسيس بيكون.