كان إذا ذكرت اسم «مصر» أمامه تنفرج أساريره، وتنبسط قسمات وجهه فرحاً، حب الوطن ملء عليه كيانه، مضروب بحب مصر، مجذوب فى هواها، وفى الليالى القمرية يذوب فى حبها عشقاً، وإذا داهمتها الخطوب ينفر يستنفر مخزون القيمة المصرى للدفاع عن الحياض المقدسة.
صوت وطنى جهورى صمت أخيراً.. المحبون كثر، والمحبون فى عشقهم مذاهب، وطيب الذكر المهندس حسب الله الكفراوى كان «عاشق صبابة» لكل ذرة تراب من أرض المحروسة، أحبها من كل روحه ودمه، وظل على حبها حتى وافته المنية، فدفن فى ترابها الطاهر.
يصدق فيه قول طيب الذكر صلاح جاهين:
على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء
ýأنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء
ýبحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب
ýوبحبها وهى مرمية جريحة حرب
ýبحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
ýوأكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء
ýوأسيبها وأطفش فى درب وتبقى هى ف درب
ýوتلتفت تلاقينى جنبها فى الكرب
ýوالنبض ينفض عروقى بألف نغمة وضرب».
الله يرحمه، كان إذا جاءت سيرة مصر وأهلها، كان يلهج بالحب، يعبر عنه بطريقته الخاصة، تلمع عيناه، ويفغر فاه، وينفجر فى الوصف، ويتغزل فى قسماتها، مليحة، طيبة، عريقة، أصيلة، ولاد الأصول يعرفون الأصول، والكفراوى أصيل مأصل، مثل شجرة توت عتيقة، جذره سارح فى أعماق المحروسة، وفرعه يتيه بفخرها، عاش متبتلاً فى محرابها، مخلصاً لناسها، جَائِلَاً فى وديانها، متقفياً آياتها مسجلة على معابدها ومساجدها وكنائسها.
كان الله يرحمه من «المجاورين»، لا يجد راحته إلا جوار «السيدة نفيسة»، من «المحاسيب»، وهم طائفة من المحبين لآل بيت النبى (صلى الله عليه وسلم)، واعتقاده مصر محروسة ببركة آل البيت، ويصلى ويسلم كثيراً، ويعطر لسانه بالذكر، سلواه ونجواه، وينصح بالزيارة، ويطلب المدد، وييمم وجهه للسماء باكياً، من البكائين كان، ودمعته قريبة، يبكى لسبب ولأهون سبب!
كل من اقترب من «الباشمهندس» أحبه لله فى لله، ومعلوم من أحبه ربه حبب فيه خلقه، أجيال عرفته مخلصاً شريفاً عفيفاً نزيهاً، وعرفته هصورا فى الحق، ناطقاً بما يعتقد، ولا يخشى فى الحق لومة لائم، وتحمل غرماً راضياً مرضياً، حامداً شاكراً، وربما باكياً.
الاقتراب من الكبير كان متاحاً، حصيرته واسعة، حكاء عظيم، وحكيه لطيف، وذكرياته مثيرة، فإذا ما تذكر موقفاً طريفاً، تسمع ضحكته المجلجلة، حزين (أنا) على رحيل رجل من خيرة الرجال، رحيل مثل هؤلاء الكبار خسارة فادحة، الحكمة التى كانوا يسبغونها على وجه الحياة تكتب لنا حياة، مدداً، ودرساً، وخبرة، عاصروا عهوداً، وأخلصوا عقوداً، وسعوا فى مناكبها، سعى الحامدين الشاكرين.
الطريق الذى سلكه الكفراوى الله يرحمه لم يكن ممهداً، وصراحته كلفته كثيراً، وقلبه الطيب كان عنوانه، وحلمه أقرب من غضبه، ومن وصفه بـ«الغضوب»، لم يفهم سر غضبه، غضب لوجه الله، لوجه الحق والمستحق، عالم المقاولات علم الكفراوى أن يكون صلداً، لذا برز طوداً، وحتى رحيله تذكره أدبيات الرثاء بأنه كان من رجالات مصر الذين أعطوا بلا حدود، عرقه من عرق الشغيلة، بناة مصر، أحد البنائين العظام.
فى سنواته الأخيرة كان يخشى على مصر، كان يرى ما لا نرى، واجفاً قلبه، كان متعباً، حزيناً، لم يكن يفرحه سوى العمران يعم البلاد، والمدن الجديدة، ميلاد جديد لدولة جديدة، حلم بها الكفراوى طويلاً، فتحقق الحلم، أظنه رحل مغتبطاً راضياً، ألف رحمة ونور فى قبرك، ويبشبش الطوبة تحت راسك، وتصلك دعوات المحبين بالرحمة، الفاتحة لسيد المجاورين.