ضوء فى آخر النفق
بحسب ما ذكره فى كتابه «قصة نفس» - وهو جانب من مذكراته وسيرته الذاتية من زاوية الوجدان–اكتشف المفكر زكى نجيب محمود ميلاد التذوق الأدبى عنده؛ عندما كتب وهو بعد مجرد تلميذ صغير؛ موضوع تعبير فيه عبارات مسجوعة وذات رنين وجرس يجذب القارئين. قال إن والده تعهده بالرعاية الشديدة واهتم بدراسته وبمدرسيه وبمتطلبات تفوقه. وذاتَ حدثٍ أدرك الدكتور زكى أن والده–مدفوعًا برغبته العارمة–أضاع عليه فرصة معيشة طفولته كبقية أقرانه؛ فهو -فى عينى والده- وُلِدَ كبيرًا ويجب أن يجيب عن جميع الاسئلة! وقعت الكارثة خلال لقاء عائلى؛ فقد سأل أحدهم الطفل زكى نجيب سؤالًا لم تكن لديه إجابته؛ فما كان من والده إلا أن صفعة صفعة قوية جدًا، أطاحت بكبريائه وبطفولته! هكذا نذر شبابه وصباه وشيخوخته وكهولته وحياته كلها لاكتساب المعارف والبراعة فى الفكر والأدب والفلسفة والمنطق الوضعى. وعاش عالمًا متسعًا رحيبًا يجعلنا نقول عنه -بعد أن قرأناه -أنه يبدو كمن عاش ألف ألف عام. الذين لم يقرأوا لايدرون ما الذى فوتوه!
أعرف كثيرين لا يقرأون؛ رغم أن مهنتهم تستوجب ذلك؛ بل هى لا تكتمل ولاتستقيم من دونها ؛ومع هذا يمضون فى غيهم يعمهون. لا حياة من دون حب أو حلم أو خيال. هكذا تعلمنا وتثقفنا على أيدى مفكرين وأدباء ومؤرخين مثل د. زكى ولويس عوض ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ورشدى فكار وحسين مؤنس ورأفت عبد الحميد وعاصم الدسوقى وأحمد زكريا. هؤلاء وغيرهم أعطونا المنهج.. وعلى غرارهم أعطانا المبدعون أشياء أخرى، فشعراء مثل شوقى وحافظ وناجى ودنقل والأبنودى وعبد الصبور وجويدة علمونا الحب والحياه والأحلام.. علمونا محبة النور والضوء والألوان. أوقدوا فينا شرارة الحياة والكفاح والفروسية وأذكوا فينا وهج الخيال وبريق الأحلام.
لا أحتمل غياب الأحلام! الحياة حلم كبير وحب أكبر. ومن علمونا فنون الحياة والحب والحرب يتساقطون الواحد تلو الآخر. كل الأسماء هنا راحلة؛ وإن بقيت مشعة فى وجداننا وعقولنا. بعض من رموزنا الحية الباقية، تربت على هذا النور المنبثق من شموس أجيال سبقت. مازلت عند رأيى.. أن الأجيال التى كانت تُعَلِم وتربى وتسلم الراية تتنكر لدورها ومهامها؛ فرُغم أن الساحة تخلو تباعًا إلا أن الفراغ يتسع ويتمدد. ترحل فى أسبوع واحد قامات كبري: الأديب الكبير سعيد الكفراوي؛ وراجى عنايت كاتب المستقبليات المعروف؛ والشاعر حسن هزاع، ومناضلون مثل أنيس البياع ونبيل عتريس طيب الله ثراهم، من دون أن يصعد ليملأ فراغهم بديل لهم ولا لمن سبقوهم بالرحيل! فى الصفوف الأولى الآن من هم على مشارف الوداع؛ ومع هذا يتقاعسون عن التقدم إلى ملء فراغنا الرهيب بأنبل وأبلغ وأكفأ تلاميذهم. يضنون علينا بتقديم النور الجديد المتوارى عن المجتمع إلى للناس! إذاعيون كطاهر أبوزيد وإيهاب الأزهرى، وفلكلوريون مثل زكريا الحجاوى أسطورة الفلكلور الشعبى، ونقاد مثل مندور والقصاص وعوض والقط وغيرهم كانوا مختلفين، وقدموا لنا كثيرًا من تلاميذهم فخلفوهم، لكن بعض رموزنا الباقية تضن علينا بتقديم من يملأوا فراغنا القاتل!
تغيرت حياتنا فعلاً. الحب أصبح حربًا؛ والحلم بات هزلًا والفراغ بات موحشًا ورهيبًا؛ والأنانية سمة العصر!