جمعة: فتح مكة يحمل دروسا في النصر والرحمة والسلام

قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء، ومفتي الجمهورية السابق أن شهر رمضان قد أوشك على الانتهاء، أوَّلُهُ رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقٌ من النار، فاللهم يا ربنا ارحمنا بما أدَّيْنَا في أوَّلِهِ، واغفر لنا بما وفَّقْتَنَا في أوسطه، واللهم اعتقنا من النار بما ستوفِّقنا فيه، يا ربنا، في آخره.
وتابع: وهو شهر الانتصارات، ففي مثل هذا اليوم مَنَّ الله سبحانه وتعالى على نبيه ورسوله ﷺ، وأقرَّ قلبه بالعودة إلى وطنه، ففتح عليه مكة المكرمة صلحًا لا عنوة، بالسلام لا بالحرب، وبالإيمان لا بعتلية الكفر والطغيان، وقد بشَّره الله سبحانه وتعالى بهذا الفتح قبل وقوعه، فقال تعالى:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا، وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1-3].
فتح مكة.. نصرٌ بلا إراقة دماء
ووضح جمعة أنه في اليوم العشرين من رمضان، وصلت جيوش المسلمين إلى مكة للفتح الأعظم، ذلك الفتح الذي كان نقطةً فاصلةً في تاريخ الإسلام والمسلمين، بل وفي تاريخ البشرية كلها. لم يكن فتحًا داميًا، بل كان فتحًا سلميًا، فتحًا يحمل في طياته أعظم دروس العدل والرحمة والتسامح.
وأضاف: لقد دخل النبي ﷺ مكة وهو خافض رأسه تواضعًا لله، وأعلن العفو العام قائلاً لأهلها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وهذا ما لم يكن ليفعله قائدٌ لمدينةٍ طُرد منها واضطُهد وعُذّب أتباعه على أيدي أهلها. لكنه ﷺ كان نبي الرحمة، الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات الجهل والطغيان إلى نور الإيمان والعدل.
دروس في الحكمة والتخطيط
وأكد جمعة أنه لقد سبق فتح مكة سنواتٌ من الصبر والتخطيط الحكيم، إذ لم يكن النبي ﷺ متسرعًا في مواجهة قريش، بل سلك طريق الحكمة والتفاوض. فعندما ذهب إلى مكة يريد العمرة، منعه المشركون عند الحديبية، فوافق على صلح ظاهره التنازل، لكن باطنه كان انتصارًا استراتيجيًا. كان بعض الصحابة يتعجبون: كيف نقبل بالدنية في ديننا؟! لكن النبي ﷺ كان يرى الأمور بعين البصيرة، فقد أراد أن يُحيّد قريش أولًا، ليستطيع فتح خيبر في الشمال، وحين نقضت قريش العهد، كانت مكة قد باتت ضعيفةً بلا حلفاء، فدخلها النبي ﷺ دون قتال.
الوطن والانتماء.. حبٌّ لا ينقطع
إن الفتح لم يكن مجرد نصرٍ عسكري، بل كان أيضًا عودة النبي ﷺ إلى وطنه الذي أُخرج منه ظلمًا. وعندما عاد إلى مكة، بحث عن دارٍ يقيم فيها، لكنه لم يجد، فقد باع عقيل بن أبي طالب ممتلكات بني هاشم، فقال النبي ﷺ بحزن: "وهل ترك عقيل من رباع؟"
وهنا تتجلى قيمة الانتماء للوطن، فقد خرج النبي ﷺ من مكة وهو يبكي، ويقول: "والله إنك لأحب أرض الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت". إن حب الوطن لا يتغير حتى وإن قسى علينا أهله، وهو درسٌ بليغٌ نتعلمه من النبي ﷺ.
السكينة.. سر القوة الحقيقية
قال الدكتور علي جمعة: إن السكينة التي أنزلها الله في قلوب المؤمنين يوم الفتح، جعلتهم أقوياء بلا عنف، أعزاء بلا غرور، رحماء بلا ضعف. فلم تكن انتصاراتهم قائمة على سفك الدماء، وإنما كانت قائمة على العدل والتسامح والإحسان.
وقد قال الله تعالى في وصف ذلك الموقف:{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26].