من جدران المدرسة إلى مواقع التواصل
«التنمر»... سلوك عدوانى لا ينتهى
«ليه مش بيحبوني؟ أنا عملت إيه؟» سؤال يتردد فى قلوب جريحة يوميًا، من ضحايا التنمر الذى امتد فى كل جوانب حياتنا، بعد توغل مواقع التواصل الاجتماعى فيها، فلم يعد التنمر محصورًا فى جدران المدرسة أو الجامعة أو حتى مكاتب العمل، بل بات فى كل لمحة ونفس، فى عدد لا نهائى من التعليقات والصور والمقاطع المصورة، ومن هنا تأتى الحاجة الملحّة للتفكير العميق والعمل الجاد للوقاية منه، وتعليم الأجيال فن الاحترام والتراحم، بعيدًا عن هذا ذلك السلوك العدوانى الذى ينتهك كرامة الإنسان ويخالف فطرة الله وأخلاق نبيه صلى الله عليه وسلم.
التنمر شرعًا
حذّر الشيخ إبراهيم عبد السلام، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، من خطورة الكلمة الجارحة وسلوك التنمر، مشيرًا إلى أن كلمة واحدة قد تُلفظ فى أقل من ثانية لكنها قادرة على إحداث أذى نفسى بالغ، يؤثر على علاقة الإنسان بنفسه وبالله وبالآخرين.
كما شدّد «عبد السلام» على ضرورة ضبط اللسان، مستشهدًا بحديث النبى صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه»، موضحًا أن الإساءة بالكلام أو الغيبة تمنع الإنسان من بلوغ ثمار عباداته فى تزكية النفس وتهذيب الروح.
وأكد أمين الفتوى أن التنمر سلوك مرفوض شرعًا، يتنافى مع الفطرة الإنسانية وأخلاق النبى صلى الله عليه وسلم، مستشهدًا بسيرة الرسول مع الصحابى زاهر بن حرام، الذى كان دميم الخلقة، ومع ذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم يلاطفه ويجبر خاطره، فى رسالة واضحة عن أهمية احتواء الناس وتقدير مشاعرهم، ورفض أى سلوك يؤذيهم.
التنمر الإلكتروني
أكد الشيخ محمد كمال، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن التنمر والسخرية من الآخرين محرّم شرعًا، مشددًا على أن مشاهدة المقاطع التى تتضمن التنمر أو الإعجاب بها أو مشاركتها عبر مواقع التواصل الإجتماعى، تُعد مساهمة فى نشر هذا السلوك غير الأخلاقى، وتقع تحت طائلة (التنمر الإلكتروني)، وهو ما يجعل مثل هذا الفعل غير جائز شرعًا ويجب تجنبه.
وأشار الشيخ كمال إلى أهمية توجيه الانتباه نحو المحتوى الإيجابى الذى يعزز الأخلاق الحسنة، والذكر، وبناء النفس، والاجتهاد فى العبادة وطلب العلم، مع الابتعاد عن أى محتوى يسيء للآخرين أو يسبب أذى للناس.
كما أكدت الدكتورة هبة النجار، عضو مركز الأزهر العالمى للفتوى، أن التنمر الإلكترونى على وسائل التواصل الاجتماعى لا يختلف فى حكمه عن التنمر اللفظى أو الجسدى، بل قد يكون أخطر نظرًا لانتشاره السريع وتأثيره العميق على الحالة النفسية للشباب والمراهقين.
وأوضحت النجار أن بعض المستخدمين يظنون أن التعبير عن الرأى على «السوشيال ميديا» بلا ضوابط، فيطلقون تعليقات مسيئة أو يسخرون من الآخرين ظنًا منهم أنها مجرد مزاح، لكنها تصرّح بأن هذه الأفعال محرمة شرعًا وتندرج تحت الأذى الذى حذر منه الإسلام، مستشهدة بقول النبى صلى الله عليه وسلم: «المسلم ليس بطعّان، ولا لعّان، ولا فاحش، ولا بذيء».
وأشارت إلى أن التنمر الإلكترونى قد يؤدى إلى فقدان الثقة بالنفس والاكتئاب، وفى بعض الحالات يصل الأمر إلى الانتحار.
من جانبه أكد الدكتور أسامة الحديدى، مدير مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية، أن ظاهرة التنمر والسخرية، خاصة بتقليد طريقة كلام الآخرين، أصبحت سلوكًا منتشرًا بشكل واسع، سواء على وسائل التواصل الاجتماعى أو فى بيئات العمل والمدارس والجامعات.
وأوضح الحديدى أن الإسلام حرم التنمر والسخرية تحريمًا شديدًا، مستشهدًا بآيات القرآن الكريم: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة: 1)، و}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ (الحجرات: 11).
وأشار الحديدى إلى أن التنمر يشمل السخرية من الكلام أو اللهجة أو المظهر، وهو سلوك مرفوض دينيًا وأخلاقيًا، لأنه يسبب أذى نفسى ومعنوى للآخرين، خاصة عند استهداف أصحاب الهمم أو الفئات الأكثر ضعفًا فى المجتمع.
وشدّد على دور الأسرة والمدرسة فى التوعية بمخاطر التنمر، وتعليم الأطفال والطلاب احترام الآخرين، وتعزيز روح التعاون والمساندة بينهم، مؤكدًا أن الإسلام يحث على احترام الآخر والحفاظ على كرامة كل إنسان.
نفسيًا واجتماعيًا
أكد الدكتور محمد المهدى، أستاذ الطب النفسى، أن التنمر ليس مجرد سلوك طفولى عابر، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بارتكاب بعض الجرائم البشعة من قبل الأطفال الذين تعرضوا سابقًا للاستهزاء أو الإيذاء الجسدى أو اللفظى، وحتى الاعتداء الجنسى.
وقال المهدى إن مصطلح «التنمر» (bullying) أصبح شائعًا بعد هذه الحوادث، مؤكدًا أن التوعية ضده ضرورة ملحة، خاصة داخل المدارس والمنازل، والضحايا غالبًا هم الأطفال الضعفاء أو المختلفون فى لون البشرة أو البنية أو الانتماء الاجتماعى أو الدينى، مما يجعلهم هدفًا للسخرية والعزل والاستهزاء، ويخلق لديهم غضبًا مكبوتًا وطاقة عدوانية قد تنفجر لاحقًا.
كما لفت إلى أن التنمر لا يقتصر على المدرسة، بل يمكن أن يحدث داخل البيت أيضًا، سواء عبر السخرية، أو إطلاق الألقاب الجارحة، أو التهميش، أو حتى الضرب المتكرر، موضحًا أن هذه الممارسات لا تربى الأطفال، بل تشرّع العنف كوسيلة تواصل.
و شدد الدكتور المهدى على وقف العقاب البدنى واللفظى فورًا، وتهيئة بيئة أسرية هادئة، والحرص على أن تكون العلاقة بين الوالدين نموذجًا للهدوء والتفاهم، واستبدال العقاب البدنى بوسائل تربوية بديلة، مع مكافآت عند الالتزام بالقواعد.
فيما تقول الدكتورة هالة منصور، أستاذ علم الاجتماع بجامعة بنها، إن مصطلح «التنمر» يأتى اشتقاقا من كلمة “نمر”، والنمر مشهور بأنه يهاجم فريسته بعد اكتشاف نقاط ضعفها، مشيرة إلى أن المتنمر يركز على عيوب الآخرين لاستغلالها والهجوم عليهم فجأة.
وأضافت أن المتنمر غالبًا شخص غير سوى نفسيًا، يفتقد الأخلاق والتربية، ويحاول إخفاء نقاط ضعفه بالتركيز على نقاط ضعف الآخرين.
وأوضحت أن سلوكه العدوانى قد يكون موجّهًا نحو عيوب خلقية أو مظاهر تراها الضحية غير مناسبة، ما يجعل هذا السلوك منبوذًا وغير إنسانى.
وعن التأثيرات، أشارت منصور إلى أن التنمر يترك آثارًا نفسية عميقة على الضحايا، تتراوح بين القلق والاكتئاب واليأس، وفى بعض الحالات قد تصل إلى الانتحار، خاصة إذا كانت البنية النفسية للضحية ضعيفة، كما يؤدى إلى اضطراب الصفو المجتمعى وردود فعل غير محسوبة.