مراجعات
بعض المجتمعات لم تعد «أسيرة» لأزماتها التقليدية فقط، بل وقعت «ضحية» في فخٍ أكثر حداثة، لكنه أقل براءة، لتعيش في «زمن الفقاعات»، الذي لا تُصنع فيه الشُّهرة بالإنجاز، بل بالقُدرة على «لفت الانتباه» و«ركوب التريند»!
هذا الوضع البائس، يتجسَّد حرفيًّا في ثلاث كلمات هي «هوس صناعة التريند»، كظاهرة سلبية، لا تقوم على أي فكرة، ولا تعيش على أي قيمة، بل تتغذى على الضجيج المصطَنع، و«تزدهر» كلما تفشى الجهل، وتراجعَ معيار الأخلاق!
في تلك المجتمعات، لا يُسأل عن المحتوى، بل عن عدد مَن شاهده، كما لا تُقاس القضايا بعُمقها، بل بسرعة انتشارها، ليكون «التريند» شهادة ميلاد اجتماعية، ثم يتحول الوعي الجمعي إلى ساحة عبث مفتوحة، تُدار فيها العقول بالانفعالات، لا بالفهم!
الآن، لم يعد «التريند» انعكاسًا لاهتمامات الناس، بل «قوة ناعمة» لإعادة تشكيلها، إذ تُرفع فيه «الفقاعات» إلى مقام «الأولويات»، فيُقصى الجادُّ بدعوى «الملل»، وهنا لا يحتاج الشخص إلى فكرة، أو إلى موهبة، بل لـ«لقطة» قابلة لـ«الاستهلاك السريع»، تُشْعِل الجدل ثم تُطفأ، لتُستبدل بها أخرى أكثر جدلًا!
المؤسف أن «الرأي العام» لم يعد يُصْنَع عبر نقاشات جادَّة أو ملفات مصيرية، بل عبر مقاطع قصيرة، وتصريحات ملتبسة، وافتعال أزمات موسمية، بينما تتراكم ملفات شائكة وأزمات حياتية، فيما الساحة مشتعلة بقضايا «تافهة» لا تستحق مجرد التوقف أمامها!
الحاصل أن بعض الأحداث «التافهة» والأسماء «الهامشية» باتت «أدوات مثالية» لصناعة الجدل، وإشغال الناس بها، لتُصبح مادة ساخنة للنقاش لا تنتهي.. ليس لخطورة ما يُقال، بل لضمان الاستقطاب، حول «حق التريند في البقاء»، وكأن الشعبية تُحصِّن الرداءة من النقد!
ربما تكمن الخطورة عندما يكون «التريند» مقصودًا ومنظمًا، أو مصطَنَعًا وغير عفويٍّ، فيُدار كما تُدار الحملات الممنهَجَة، بافتعال القضايا بشكل متعمَّد، وإعادة توجيه النقاش، لضمان استمرار الجدل، فلا يُستضاف صاحب الرأي، بل صاحب الانفعال، ولا يُفتح الحوار، بل تُفتح المعركة.. وهكذا يتحول «الفضاء الأزرق» إلى حلبة صراع لفظي، لا ينتصر فيها سوى عَدَّاد المشاهدات!
إذن، مع تكريس ثقافة «التريند»، تتآكل الذائقة العامة، ويصبح الابتذال مألوفًا، و«التفاهة» مقبولة، لينشأ جيل جديد يتربى على أن القيمة في الظهور والانتشار لا في الفهم، وفي الجرأة والوقاحة لا في المعرفة، وفي كسر «التابوهات» لا في بناء الأفكار، وبالتالي اختزال الوعي في لقطة، والرأي في تعليق، والحقيقة في «تريند» سريع الزوال!
أخيرًا.. يجب علينا التحلِّي بالحد الأدنى من إعمال العقل، فالأمم لا تُقاس بعدد «ترينداتها»، بل في قدرتها على التمييز بين ما يستحق الصدارة، وما يستوجب التجاهل، فخطورة «التريند» ليس فقط في الإلهاء، بل لأنه يجعلنا نعتاد يومًا بعد يومٍ على ألا نفكر.
فصل الخطاب:
يقول «مارك توين»: «كلما وجدتَ نفسك في صف الأغلبية، توقف لحظة.. وراجع نفسك».