تيك توك يؤمن مستقبله في الولايات المتحدة بعد سنوات من الجدل
بعد سنوات طويلة من الشد والجذب السياسي والقانوني، يبدو أن تطبيق تيك توك يطوي واحدة من أكثر صفحاته توترًا في السوق الأمريكية، فقد كشفت تقارير صحفية، أبرزها لوكالة أسوشيتد برس، عن توقيع اتفاق رسمي يقضي بفصل أعمال تيك توك في الولايات المتحدة عن الشركة الأم الصينية بايت دانس، في خطوة من شأنها الإبقاء على التطبيق الشهير متاحًا للمستخدمين الأمريكيين بشكل دائم، وإنهاء سيناريو الحظر الذي ظل يلوح في الأفق منذ عام 2020.
الاتفاق الجديد، الذي يوصف بأنه أحد أكثر الصفقات التقنية تعقيدًا في السنوات الأخيرة، يعيد هيكلة ملكية وإدارة تيك توك داخل الولايات المتحدة، بما يتماشى مع المتطلبات الأمنية والسياسية التي فرضتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة. ووفقًا للتفاصيل المتاحة، فإن الصفقة تمثل تتويجًا لمسار طويل من المفاوضات، والضغوط، والقرارات التنفيذية التي كادت في أكثر من مرة أن تطيح بأحد أكثر تطبيقات التواصل الاجتماعي انتشارًا في العالم.
بحسب المعلومات التي تم الكشف عنها، سيتم توزيع ما يقرب من 50 في المئة من أصول كيان تيك توك الأمريكي الجديد بين ثلاث شركات استثمارية كبرى. ستحصل كل من أوراكل وسيلفر ليك وMGX على نحو 15 في المئة من الكيان الجديد، في توزيع يعكس محاولة واضحة لخلق توازن بين رأس المال الأمريكي والنفوذ الدولي.
وتبرز هنا شركة MGX على وجه الخصوص، إذ إنها ليست شركة أمريكية، بل صندوق استثماري مملوك لحكومة أبوظبي. وجود MGX ضمن هيكل الملكية يضيف بعدًا دوليًا جديدًا للصفقة، ويعكس في الوقت ذاته تحوّل تيك توك من كونه ملفًا ثنائيًا بين واشنطن وبكين، إلى قضية ذات أبعاد استثمارية وجيوسياسية أوسع.
في المقابل، ستحتفظ الشركات التابعة لبايت دانس ببقية الحصص، على أن تمتلك الشركة الأم حصة مباشرة تُقدّر بنحو 20 في المئة. هذا الترتيب يسمح لبايت دانس بالاستمرار كشريك مؤثر، دون أن تكون صاحبة السيطرة الكاملة، وهو ما كان يمثل نقطة الخلاف الرئيسية مع السلطات الأمريكية.
ضمن بنود الصفقة، سيتم إنشاء مجلس إدارة مكوّن من سبعة أعضاء لإدارة منصة تيك توك داخل الولايات المتحدة. وتشير التقارير إلى أن غالبية أعضاء هذا المجلس سيكونون من الأمريكيين، في خطوة تهدف إلى طمأنة صناع القرار في واشنطن بأن إدارة المنصة، وسياساتها التشغيلية، ستخضع لإشراف محلي مباشر.
هذا المجلس سيكون مسؤولًا عن القرارات الاستراتيجية المتعلقة بإدارة المنصة، وحماية البيانات، وسياسات الإشراف على المحتوى، وهي ملفات كانت في قلب الجدل الدائر حول تيك توك، خاصة في ظل الاتهامات المتكررة بوجود مخاطر تتعلق بالأمن القومي ونقل بيانات المستخدمين إلى الصين.
واحدة من أهم نقاط الصفقة تتعلق بتخزين بيانات المستخدمين الأمريكيين. فبموجب الاتفاق، سيتم تخزين هذه البيانات ضمن نظام تشغّله شركة أوراكل، ما يعني فعليًا نقل إدارة البنية التحتية للبيانات إلى شركة أمريكية عملاقة في مجال التكنولوجيا.
أوراكل، التي يقودها رجل الأعمال المعروف لاري إليسون، كانت تسعى منذ عام 2020 إلى لعب دور رئيسي في ملف تيك توك. ويُنظر إلى هذه الخطوة باعتبارها تنازلًا جوهريًا من تيك توك لتلبية المخاوف الأمريكية، خاصة أن ملف البيانات كان دائمًا العصب الحساس في هذا النزاع.
وتحمل مشاركة أوراكل أبعادًا سياسية أيضًا، نظرًا للعلاقات الوثيقة التي تربط إليسون بعدد من الشخصيات البارزة في الدوائر السياسية الأمريكية، وعلى رأسها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. هذه العلاقات لعبت دورًا غير مباشر في تسهيل مسار المفاوضات، خاصة في ظل رغبة الإدارة الأمريكية في إيجاد حل يحفظ ماء الوجه سياسيًا، دون اللجوء إلى الحظر الكامل.
إلى جانب أوراكل، تبرز شركة سيلفر ليك كشريك أساسي في الصفقة. الشركة الاستثمارية معروفة بعلاقاتها الواسعة داخل عالم المال والسياسة، ولديها صلات وثيقة بشخصيات قريبة من ترامب، من بينهم مايكل ديل، مؤسس شركة ديل، وجاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي السابق.
وجود سيلفر ليك ضمن هيكل الملكية يعزز الطابع الأمريكي للكيان الجديد، ويمنح الصفقة غطاءً سياسيًا واستثماريًا قويًا، في وقت تسعى فيه واشنطن إلى تقليل اعتمادها على الشركات الصينية في القطاعات الرقمية الحساسة.
في مذكرة داخلية وُزّعت على موظفي تيك توك، أكد شو تشو، الرئيس التنفيذي للتطبيق، أن الصفقة من المتوقع أن تُغلق رسميًا في 22 يناير المقبل. وأشار تشو إلى أن هذه الخطوة تمثل بداية مرحلة جديدة للشركة، داعيًا الموظفين إلى التركيز على جوهر عملهم، وهو خدمة المستخدمين وصناع المحتوى والشركات.
وقال تشو في رسالته إن الاتفاقات الجديدة تتيح لتيك توك مواصلة رسالته الأساسية، مع توفير إطار قانوني وتنظيمي أكثر استقرارًا داخل السوق الأمريكية، التي تُعد واحدة من أهم أسواق التطبيق على الإطلاق.
في حال إتمام الصفقة في الموعد المحدد، فإنها ستأتي بعد أكثر من عام بقليل على أول أمر تنفيذي أصدره دونالد ترامب لتأجيل تنفيذ قانون كان من شأنه فرض بيع تيك توك أو حظره داخل الولايات المتحدة. وخلال تلك الفترة، وقّع ترامب عدة تمديدات إضافية، في محاولة لإيجاد مخرج قانوني وسياسي للأزمة.
هذا المسار الطويل يعكس حجم التعقيد الذي أحاط بملف تيك توك، حيث تداخلت فيه اعتبارات الأمن القومي، وحماية البيانات، والمنافسة الاقتصادية، وحتى الحسابات الانتخابية.
ماذا يعني الاتفاق لمستقبل تيك توك؟
إتمام هذه الصفقة يعني عمليًا أن تيك توك سيواصل عمله في الولايات المتحدة دون تهديد مباشر بالحظر، وهو ما يمنح المنصة استقرارًا طال انتظاره. كما يمنح صناع المحتوى والشركات الإعلانية ثقة أكبر في الاستثمار طويل الأمد داخل التطبيق، بعد سنوات من الغموض.
في الوقت نفسه، يشير الاتفاق إلى نموذج جديد قد يُحتذى به في التعامل مع الشركات التكنولوجية العابرة للحدود، حيث يتم الفصل بين الملكية والإدارة والبيانات، بما يراعي متطلبات السيادة الرقمية للدول، دون التضحية الكاملة بمبدأ العولمة.
وبينما يطوي تيك توك صفحة شائكة في تاريخه الأمريكي، يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كان هذا النموذج سينجح في تهدئة المخاوف السياسية على المدى الطويل، أم أنه مجرد هدنة مؤقتة في صراع أوسع حول السيطرة على الفضاء الرقمي العالمي.