هوامش
انتابتنى وكثيرون نوبة أمل فى إصلاح المشهد السياسى والانتخابى عندما وجّه الرئيس عبدالفتاح السيسى رسائل واضحة وصريحة للمواطنين بشأن انتخابات مجلس النواب. رسائل لم تحتمل التأويل: لا تنتخبوا من يشترى أصواتكم… صوتكم ليس للبيع… مصر أكبر من أن يُختزل مستقبلها فى حفنة مال سياسى.
كان من المتوقع أن تُشكّل هذه التوجيهات «فيتو رئاسيًا» يضع حدًّا لممارسات طالما لوّثت سمعة العملية الانتخابية، وأن تُستَنفر الجهات المعنية لفرض الانضباط بكل قوة وحسم، تعزيزًا لهيبة الدولة واحترامًا للفيتو الرئاسى قبل أى شيء.
لكن ما جرى على الأرض فى جولات الإعادة والمرحلة الثانية جاء صادمًا، ومخيبًا لآمال كل من راهن على مشهد انتخابى يليق بما يسمى «الجمهورية الجديدة».
فى مناطق عديدة، لم يكن شراء الأصوات مجرد اتهام أو همس فى الخفاء، بل ممارسة علنية تتجاوز حدود العقل. «سعر الصوت»، «نقاط الحشد»، «طابور الدفع»، كلها صارت مشاهد مألوفة، تتكرر فى وضح النهار وكأنها جزء من المشهد الطبيعى.
الغريب أن يحدث كل هذا بعد أيام قليلة من تحذيرات رئاسية مباشرة. وكأن هناك من يصرّ على توجيه رسالة معاكسة، وكأن التوجيهات لا تُلزِم، والفيتو لا يمر، والمشهد يسير كما كان بل أسوأ.
السؤال الذى سيظل معلّقًا على المشهد:
أين كانت الأجهزة المفترض أن تحمى نزاهة الانتخابات؟ بغض النظر عن بعض وقائع الضبط التى أعلنت عنها وزارة الداخلية، لم تُظهر الجهات الرقابية والتنفيذية الحزم المنتظر، ولم نرَ التدخل السريع الذى يعيد الانضباط ويوقف المهزلة. بدا وكأن الدولة تتحدث بلغة، والبعض يتحرك بلغة أخرى تمامًا،
هذه الفجوة بين الموقف الرئاسى وما حدث فى الشارع الانتخابى ليست مجرد خلل؛ إنها مؤشر خطير على وجود مقاومة داخلية لتمرير انتخابات محترمة، أو على الأقل حالة تراخٍ لا يمكن تبريرها أمام غضب الرئيس ورغبته فى تنظيف العملية السياسية.
السؤال الأخطر: من الذى يريد أن يظهر المشهد الانتخابى بصورة لا تليق فى وقت تحاول فيه الدولة ترميم ثقة المواطنين؟
هل هو تهاون؟ هل هى مصالح محلية؟
هل هو ارتباك تنظيمي؟، أم أن هناك من يرى أن "المال السياسي" هو الطريق الوحيد لضبط النتائج، مهما كان ذلك على حساب هيبة الدولة وسمعة النظام؟
أيًّا كانت الإجابة، فالنتيجة واحدة: صورة مؤلمة لا تنتمى إلى الجمهورية الجديدة التى أعلن الرئيس ملامحها.
المطلوب الآن وقبل أن نفقد آخر ما تبقى من الثقة إذا أرادت الدولة أن تنسجم أجهزتها مع رؤية الرئيس، فعليها أن تدرك أن الانتخابات ليست مجرد إجراءات، بل هى مصداقية. والمصداقية تُبنى بالردع ووجود إرادة على إخراج انتخابات نزيهة يشعر فيها المواطن بقيمة صوته.
لا بد من إجراء تقييم شامل لما حدث، ومحاسبة كل من ترك المشهد يخرج عن السيطرة، لأن استمرار هذا الوضع يعنى أن الرسائل الأعلى فى الدولة لا تجد طريقها إلى التنفيذ، وأن هناك خللًا خطيرًا فى سلسلة القرار.
لقد أصدر الرئيس توجيهاته بوضوح.. لكن الطريق من الرئاسة إلى الشارع يبدو مزدحمًا بالتعطيل والمصالح والنفوذ.
الجمهورية الجديدة لا يمكن أن تُبنى بمال سياسى، ولا عبر مشاهد فوضوية تسيء لمصر قبل أن تسيء للنظام نفسه.
ولذلك لا بد من مواجهة صريحة:
إما أن يمر "الفيتو الرئاسي" كاملًا… أو فليتحمل من عطّله مسئولية الإضرار بالثقة العامة وبشكل الدولة أمام مواطنيها.