المتاحف وصناعة التماثيل بين التراث والدين.. متى بدء تحريم التماثيل؟
أعادت دار الإفتاء المصرية فتح ملف “التماثيل والمتاحف” الذي يثار كلما ظهر حديث عن الآثار المصرية أو عند افتتاح متحف جديد، مؤكدةً – في فتوى علمية موسعة – أن إقامة المتاحف، وعرض التماثيل الأثرية، والاستفادة منها في التعليم والتاريخ، لا يُخالف أحكام الشريعة الإسلامية، بل ينسجم مع مقاصدها في التعارف والتعلم والاعتبار.
حضارات الشعوب.. قيمة إنسانية أصيلة
تبدأ دار الإفتاء فتواها بالتأكيد على أن الاختلاف بين الحضارات والثقافات سنة من سنن الله في خلقه، وأن الأمم لم تنهض إلا بالمعرفة المتبادلة. ويستدل العلماء بقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، لتؤكد أن معرفة تاريخ الأمم وتراثها — ومنها الآثار — جزء من حركة التعارف بين البشر.
ويرى كبار المفسرين، مثل ابن عجيبة وابن عاشور، أن التعارف بين الشعوب يسهم في بناء الحضارات وتكامل الإنسانية، وهو ما تحققه المتاحف اليوم بوصفها منصات للتاريخ والعلم.
متى كان تحريم التماثيل؟ وما علته؟
تشرح دار الإفتاء أن الأحاديث التي ورد فيها النهي عن صناعة التماثيل تتناول حالات محددة ارتبطت بالخوف من العودة لعبادة الأصنام ومضاهاة خلق الله.
فالتحريم جاء في سياق بيئة كانت الأصنام فيها تُعبد وتُعظّم، فكان المنع سداً لذريعة الشرك.
لكن الفقهاء أوضحوا أن العلة ليست في وجود التمثال ذاته، بل في:
قصد مضاهاة خلق الله
أو اتخاذ التمثال للعبادة والتقديس
ولذلك قال العلماء: “الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا”.
ومع زوال تلك العلة في عصرنا—حيث تُعرض التماثيل للتعليم والتوثيق، لا للعبادة—ينتفي سبب التحريم.
الفقهاء يخصصون النهي
استشهدت الفتوى بأقوال أئمة كبار:
ابن عابدين: أجاز التماثيل غير الكاملة أو التي تُفقد خصائصها، لأنها لا تُعبد.
ابن قدامة: أجاز ما ليس على هيئة كاملة للحيوان.
الإمام محمد عبده: أكد أن التحريم زمن النبي كان لاقتراب العهد بالوثنية، أما اليوم فقد زالت العلة.
كما تستدل الفتوى بحديث عائشة رضي الله عنها عن لعب البنات المجسمة، وهو استثناء قرره النبي ﷺ بنفسه لتعليم البنات وتدريبهن، مما يفتح الباب أمام الاستخدام التعليمي للتماثيل.
تعليم وثقافة لا شبهات فيها
تشدد دار الإفتاء على أن إقامة المتاحف المعاصرة لا تستهدف مطلقًا مضاهاة خلق الله، ولا تُتخذ للعبادة، وإنما:
توثق تاريخ الأمم
تنقل العلوم القديمة
تحفظ تراث الشعوب
تدعم الهوية الوطنية
تُعلّم الأجيال علوم وآداب الحضارات السابقة
بل إن الدول المتقدمة أنشأت معاهد وجامعات خاصة بعلم المتاحف والآثار، لِمَا لها من دور حضاري وعلمي لا علاقة له بأي ممارسات دينية قديمة.
ويرى علماء الشريعة — مثل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور — أن تحريم التماثيل في الإسلام كان سدًّا لذريعة الشِرك، ومع زوال الذريعة يزول الحكم.