في مسيرة التاريخ السياسي العالمي، هناك أحزاب صمدت أمام الزمن وحافظت على هويتها واستمراريتها، لتصبح أيقونات في فهم التطور الديمقراطي وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
من هذه الأحزاب يأتي الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي تأسس عام 1828، وحزب المحافظين البريطاني المعروف بالتوريز الذي تحول اسمه رسميا إلى Conservative عام 1834، وحزب Hunchak الاشتراكي الديمقراطي 1887، والحزب الجمهوري الإيطالي 1895، والحزب الديمقراطي الاجتماعي لليتوانيا 1896.
ويأتي أيضا حزب Musavat في أذربيجان 1911، وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي ANC في جنوب أفريقيا 1912، وصولا إلى حزب الوفد المصري الذي بدأ ك “وفد مصري” في نوفمبر 1918، وأصبح رسميا في سبتمبر 1923، محتفظا بمكانته كأقدم ثامن حزب سياسي على مستوى العالم، والثاني على القارة الأفريقية بعد حزب ANC في جنوب أفريقيا.
هذا التاريخ يؤكد على عمق التجربة الوطنية المصرية وحرصها على الديمقراطية والتمثيل الحقيقي للشعب منذ أكثر من قرن، ويبرز دور مصر في كتابة تاريخ السياسة الحديثة بروح وطنية أصيلة.
ويبرز حزب الوفد المصري كأقدم ثامن حزب سياسي مستمر على مستوى العالم، والثاني على القارة الأفريقية بعد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ليؤكد على ثقل التجربة السياسية الوطنية العميقة.
حزب الوفد كان ولا يزال جزءا لا يتجزأ من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، فبداية تاسيسه في نوفمبر 1918 كانت لحظة فاصلة في وعي الأمة بمفهوم الحرية والدستور وممارسة السلطة من الشعب ولأجل الشعب، وهو الحزب الذي حمل هم الوطن قبل أن تتحول الأحزاب الأخرى إلى مجرد أسماء على الورق.
في مدرسة الوفد تعلمت حب الوطن وعظمة ترابه وكيف يكون المواطن شريكا حقيقيا في صنع مستقبله، وهو شعور يتكرر اليوم ونحن نرى أحداث السياسة المصرية تتقاطع بين الماضي والحاضر بطريقة تكشف عن تكرار التجارب، ولكن مع فروق دقيقة تستحق التأمل.
فمنذ تأسيس حزب الوفد، كان الهدف واضحا بناء دستور يحمي حرية المصريين ويضع قواعد واضحة للبرلمان والحكومة، ولم يكن الوفد مجرد حزب سياسي، بل حركة وطنية متكاملة، تصدت لمعركة الدستور في بداياتها، ووضعت أول دستور عصري لمصر، يحدد الحقوق والواجبات، ويؤطر ممارسة السلطة التشريعية والتنفيذية.
المعارك البرلمانية للوفد قبل انقلاب 1952 كانت مليئة بالتحديات، حيث واجه الحزب محاولات السيطرة على الحكومة وفرض قوانين تحد من حرية الصحافة والتعبير، ولكن النواب الوفديين، بدعم من الحكومة الوفدية ونقابة المحامين، وقفوا ضد أي مشروع يهدد استقلالية الدولة أو حرية المصريين، وهو موقف يذكرنا بالمسؤولية الوطنية الحقيقية في حماية الدستور والمواطن.
واحدة من أبرز الذكريات في تاريخ الوفد كانت أحداث يناير 1950، بعد فوز الحزب في الانتخابات البرلمانية، حيث شكل النحاس باشا الحكومة وعقد أول اجتماع لها فور الإعلان عن النتائج، لتأكيد المبادئ الديمقراطية وإلغاء الرقابة على الصحف فورا.
كما قامت الحكومة بإعداد ميزانية 1951 التي عكست التزامها بالاستثمار في التعليم والمشروعات الوطنية الجديدة رغم وجود عجز مالي، وهو عجز تم التعامل معه بحكمة لتعزيز التنمية ومصلحة المواطنين، هذه التجربة تعلمنا درسا مهما عن إدارة الدولة بمسؤولية، ومواجهة التحديات المالية دون المساس بحقوق الناس وحرياتهم.
وكانت الميزانية تظهر مصروفات بقيمة 196 مليون جنيه، وإيرادات 171,533,700 جنيه، ليكون العجز 14,400,000 جنيه، بينما بقيت 10,076,000 جنيه من الفرق بين المصروفات والإيرادات، والتي كانت الحكومة تتوقع تغطيتها من المشروعات القائمة، إضافة إلى مضاعفة ضريبة رسم القطن في أكتوبر 1950 لمواجهة العجز.
وفي فترة السبعينيات والثمانينيات، كان البرلمان مليئا بالنواب الشجعان مثل المستشار ممتاز نصار، علوي حافظ، وطلعت رسلان، الذين أظهروا قدرة حقيقية على مساءلة الحكومة.
وكان فؤاد سراج الدين باشا يعلن بإلغاء الرقابة على الصحف الساعة العاشرة صباحا وإبلاغ الصحف الساعة الثانية عشر، مؤكدا حرية الإعلام كمبدأ أساسي للدولة.
لكن التاريخ يعيد نفسه بطريقة مأساوية، ففي انتخابات مجلس النواب 2025 المرحلة الأولى، شهدت معظم الدوائر صورا مشوهة للعملية الديمقراطية، من توزيع المال السياسي على نطاق واسع إلى ضعف التمثيل الشعبي وانتشار الرشاوى الانتخابية على نطاق واسع، مما أثر سلبا على صورة مصر أمام العالم وأثار تساؤلات جادة عن قدرة البرلمان القادم على ممارسة الرقابة على الحكومة أو تشريع قوانين حقيقية تصب في مصلحة المواطنين.
كما تذكرنا أحداث 1950، حين تصدى النواب والمحامون الوفديون لمشاريع قوانين أسطفان باسيلي لحماية حرية المواطنين، فإن القانون الأخير للإجراءات الجنائية، الذي قدمه النائب إيهاب راغب أسكندر المعروف بإيهاب الطماوي، يعيد للأذهان نفس التحديات، ويذكرنا بمحاولات سابقة في التاريخ لتقييد حرية المواطنين.
مثل ما حدث مع مشروع قوانين أسطفان باسيلي في 1950، حيث تصدى النواب والمحامون الوفديون لهذه المشاريع وألزموا المسؤولين بالتراجع عنها، وهو درس أن الواجب الوطني لا يتغير عبر العقود، وأن حماية الحقوق مسؤولية مستمرة.
إن مقارنة الماضي بالحاضر تبرز الفرق الكبير بين برلمان الوفد الذي كان حيا وشجاعا وقادرا على مساءلة الحكومة وإقالتها إذا اقتضت المصلحة، وبين الحالة الحالية التي نراها في الانتخابات الحديثة، حيث تسود قوائم غير حقيقية، وتغيب الرقابة والمساءلة الحقيقية.
تجربة السبعينيات والثمانينيات، حيث شكلت القوائم الانتخابية نسبة 20% من الأصوات بينما أعطيت 80% للنظام الفردي، أفرزت برلمانا قويا ومتنوعا، وأثبت أن الديمقراطية الحقيقية تحتاج إلى توازن دقيق بين النظام الفردي والقوائم النيابية.
وكان عيد الجهاد الوطني في 13 نوفمبر عيدا وطنيا رسميا قبل انقلاب 1952، يعكس روح الوطنية والتضحية، إلى أن ألغي بعد الانقلاب، ليظل رمزا في وجدان المصريين للتضحية من أجل الوطن والفكر الوطني الصادق.
وبين أحداث الانتخابات الحديثة ومحاولات فرض قوانين تحد من حرية المواطنين، نجد أنفسنا أمام تحد جديد يتطلب العودة إلى مبادئ الوفد الأصيلة، التي علمتنا أن الوطن أمانة وأن حماية الدستور والحريات مسؤولية كل فرد.
إن مصر، بتاريخها الحضاري العريق ومكانتها الإقليمية والدولية، تستحق أكثر من صورة مشوهة للانتخابات وسلوكيات سياسية تضر بسمعتها.
إنها بحاجة إلى برلمان حقيقي، قادر على التشريع والرقابة، يعبر عن إرادة الشعب لا عن التوجيهات العليا. مدرسة الوفد تعلمنا أن الوطنية ليست مجرد شعارات، بل ممارسة يومية، وأن حب الوطن يعني العمل على تطوير مؤسساته، حماية دستوره، وضمان حقوق مواطنيه.
وأنا أرى اليوم أن تجربة الوفد، منذ تأسيسه وحتى ما قبل انقلاب 1952 وبعده، تبقى نموذجا حيا للمسؤولية الوطنية، للشجاعة في مواجهة التحديات، والالتزام بمبادئ الدستور والحقوق.
وأن ما يحدث اليوم من تشويه للعملية الانتخابية أو محاولات تقييد الحريات يجب أن يكون حافزا للصحفيين والمواطنين لإعادة النظر في ممارسات السياسة، وتعزيز قيم الحرية والدستور.
وأؤكد أن تجربتي في مدرسة الوفد علمتني أن حب الوطن ليس مجرد كلمات على ورق، بل شعور ينبع من القلب، ومن إدراك أهمية المشاركة والمسؤولية.
وأن المشاركة السياسية ليست شعارات، بل ممارسة حقيقية تصنع الفرق، وهو درس يظل حاضرا عندما نراقب السياسة المصرية اليوم ونعاين تكرار التجارب التاريخية.
وأن الماضي مليء بالدروس، والحاضر يتطلب منا الحذر والتفاعل الحقيقي، للحفاظ على مصر كدولة عظيمة، تحترم تاريخها، وتبني مستقبلها بقوة وعدالة.