يُعد النظام الانتخابي أحد أهم أدوات بناء الشرعية السياسية وإقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. غير أن ما شهدته الساحة السياسية المصرية في الأعوام الأخيرة من اعتماد القائمة المطلقة المغلقة وتوسيع الدوائر الانتخابية بصورة مفرطة، يعكس توجهاً يعيد إنتاج أنماط سياسية سبق أن رفضها المجتمع المصري في لحظات تاريخية فارقة. فبدلاً من أن يكون النظام الانتخابي وسيلة لضمان تمثيل حقيقي وتوازن سياسي، أصبح أداة هندسة سياسية تتحكم فيها موازين النفوذ والمال، على حساب الكفاءة والتمثيل الشعبي.
أولاً: القائمة المطلقة وإقصاء الكفاءات
اعتماد قائمة واحدة مغلقة محددة النتائج مسبقاً ألغى جوهر التنافس الانتخابي. فالاختيار هنا لا يكون بين برامج أو رؤى، بل بين قبول القائمة أو إسقاطها بالكامل، وهو ما يجعل العملية برمتها أقرب إلى التزكية منها إلى الانتخاب. هذا الوضع يؤدي إلى:
1. تغييب الإرادة الشعبية بتحويل المواطن إلى مجرد شاهد على نتائج معدّة مسبقاً
2. استبعاد الكفاءات المستقلة لصالح المحسوبين على بنية سياسية تَعتبر نفسها الممثل الوحيد "للدولة"
3. إعادة إنتاج مركزية السلطة السياسية في يد حزب أو ائتلاف واحد.
إن الادعاء بأن هذه القائمة "صمام أمان الدولة" يتجاهل حقيقة أن الشعب المصري نفسه هو صمام الأمان، وأن أي محاولة لإقصاء إرادته أو اختزاله في شكل صوري تمثل مخاطرة سياسية غير محسوبة.
ثانياً: توسيع الدوائر الانتخابية وتعزيز المال السياسي
قرار توسيع الدوائر بصورة تجعل تمثيلها يتطلب قدرات مالية هائلة، يخلق بيئة تنافس مختلة بين المرشحين. ففي حين يمتلك مرشحو الائتلاف أو الحزب المسيطر شبكة نفوذ وأدوات مالية وتنظيمية، يصبح المستقلون عاجزين عن منافسة هذا الثقل.
النتيجة المباشرة لهذا التوسيع هي:
1. صعود أصحاب المال على حساب أصحاب الكفاءة.
2. تزاوج النفوذ الاقتصادي والسياسي بما يشبه إعادة إنتاج نموذج "زواج السلطة بالمال".
3. تحويل مقاعد البرلمان إلى سلعة قابلة للتسعير والمزاد، وهو واقع وثّقته وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع في الوقت الذي التزم فيه الإعلام والهيئة الوطنيه للانتخابات الصمت المطبق.
هذا الوضع لا يسيء فقط إلى العملية السياسية، بل يخلق فجوة واسعة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، إذ يشعر الناخب بأن صوته لم يعد له قيمة، وأن صندوق الاقتراع تحوّل إلى إجراء شكلي لاستكمال الصورة.
ثالثاً: خطر استنساخ نموذج الحزب الأوحد
التجربة السياسية الحديثة في مصر أثبتت أن احتكار التمثيل السياسي يؤدي إلى الجمود، ويمنع تجديد النخبة ويضعف قدرة الدولة على مواجهة الأزمات. العودة إلى نموذج "الحزب الواحد" تحت أي مسمى، وبأي خطاب، وبأي غطاء من الشعارات الوطنية، تمثل نكوصاً سياسياً يتجاهل دروس التاريخ القريب، وعلى رأسها أحداث 2011.
إن الدولة الحديثة لا تُبنى على حزب واحد يحتكر تعريف الوطنية، بل على تعددية سياسية حقيقية، قوامها الاعتراف بالدور المركزي للمواطن باعتباره مصدر الشرعية.
ما يحدث اليوم من هندسة انتخابية تقوم على:
قائمة مغلقة محددة النتائج،
وتوسيع دوائر يخدم نفوذ المال السياسي
واحتكار للتمثيل تحت شعار "دعم الدولة"،
هو مسار يهدد شرعية العملية السياسية ويضعف الثقة العامة، ويعيد إنتاج بيئة سياسية سبق للمصريين أن رفضوها بوضوح.
الحفاظ على الدولة لا يكون بإقصاء الشعب، بل بإشراكه.
ودعم الاستقرار لا يكون بتزييف التمثيل، بل بإرساء نظام انتخابي عادل يُعيد للاقتراع قيمته وللكفاءة مكانتها وللبرلمان دوره الطبيعي.