في الوقت الذي يستعد فيه المصريون لانتخابات برلمانية جديده، تتضح أجواؤها ملبدة بظلّ العزوف الشعبي الذي بدا جلياً في انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة. عزوفٌ لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة شعورٍ متنامٍ لدى المواطنين بأن مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين لم يعد قائماً، وأن الصراع لم يعد بين أفكارٍ وبرامج، بل بين حجم الإنفاق وقدرة المال على شراء النفوذ.
لقد أصبحت الحملات الانتخابية مرآةً للفجوة الطبقية العميقة التي تضرب المجتمع. فمع الغلاء الفاحش والتضخم المتصاعد وتآكل الطبقة الوسطى، صار تمويل حملة انتخابية عبئًا لا يتحمله إلا أصحاب الثروات الضخمة. المؤتمرات، الإعلانات، الدعاية، رسوم البلديات... كلها تحولت إلى ساحة يتنافس فيها المال لا العقول. فغاب أصحاب الكفاءة والرؤية، وتقدّم أصحاب المال، حتى بات البرلمان في خطر أن يتحول إلى بورصة مصالح لا منبرًا للشعب.
كيف نطلب من المواطن الواعي أن يشارك، وهو يدرك أن صوته لن يُترجم إلى تغيير حقيقي؟ كيف نطالبه بالثقة في انتخاباتٍ تُدار بمنهجٍ يفتقر إلى العدالة والمساواة منذ وضع نظام القائمة المطلقة وتوسيع الدوائر على نحوٍ يكرّس الإقصاء؟
إن نجاح الانتخابات لا يُقاس بعدد الصناديق الممتلئة، بل بمدى الثقة والمصداقية التي تحظى بها العملية برمّتها لدى المرشحين والأحزاب والناخبين على السواء. فإذا غابت هذه الثقة، فلن نحصد سوى مجالس عاجزة، وحكومات ضعيفة، لتبقى القيادة السياسية وحدها في مواجهة أعباء الداخل والخارج.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعة جذرية تضمن المساواة وتعيد الروح للديمقراطية. يجب أن تُحدّد سقوف منطقية للإنفاق الانتخابي تتناسب مع الأوضاع الاقتصادية، وأن تُمنع الممارسات الباذخة التي تقتل أي فرصة للمنافسة النزيهة وأن يلغى نظام القائمة المطلقة الذي أفسد الحياة السياسية والحزبية. فطبقًا لدليل المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (IDEA)، تُعدّ العملية الانتخابية دورة متكاملة لا تُختزل في يوم الاقتراع فقط، بل تشمل الإعداد، والمراقبة، والتقييم، وكلها مراحل تحتاج إلى ضوابط واضحة وبسيطة وشاملة تعزز وحدة المنهج والعدالة بين جميع الشركاء.
إنّ الديمقراطية الحقيقية لا تُختزل في صندوق اقتراع، بل في ضمان تكافؤ الفرص بين جميع المرشحين، بغض النظر عن ثرواتهم أو انتماءاتهم الطبقية. وعندها فقط، يمكن أن نرى مجالس تعبّر عن إرادة الشعب لا عن ثروات الأفراد، وتخفف العبء عن القيادة السياسية لتتفرغ لملفاتها الكبرى، بينما تتولى حكومات منبثقة عن انتخابات عادلة معالجة جراح الداخل.
لكن المشهد الحالي، الذي كشف بيع المقاعد البرلمانية وتوزيعها مقابل المال، أعاد إلى الواجهة ملفًا خطيرًا طالما أرهق الحياة السياسية المصرية: المال السياسي. هذه المرة لم يقتصر الأمر على شراء الأصوات، بل تعدّاه إلى محاولة أخطر: احتكار الحياة السياسية وإعادة إنتاج طبقة من الأثرياء كقدوة زائفة للشباب، حتى لو كان مصدر المال مشبوهاً.
وليس هذا جديداً على الساحة المصرية، فقد شهدت بعض الدورات البرلمانية بعد 2011 ظاهرة شراء المقاعد علنًا، ما أدى إلى تراجع غير مسبوق في مستوى الأداء البرلماني، وغياب الكفاءات والعقول لمصلحة النفوذ المالي. فالمال السياسي ليس مجرد فسادٍ انتخابي، بل هو جريمة استراتيجية لشراء المستقبل.
والخطر الأكبر أن يرى الشباب أن طريق النفوذ لا يمر عبر الكفاءة والعلم، بل عبر المال والصفقات، فيفقدوا الثقة في قيمة الوطنية والانتماء. ومع تآكل الطبقة الوسطى، التي كانت دومًا صمام الأمان للمجتمع، تزداد هشاشة الدولة أمام تغوّل المال السياسي، وتتعمّق الفجوة الاجتماعية، ويضعف الانتماء الوطني.
تتجلّى خطورة المال السياسي في نتائجه المدمّرة:
إقصاء الكفاءات: إذ تتحول مقاعد البرلمان إلى أدوات لحماية المصالح لا لخدمة التشريع والرقابة.
هجرة العقول: حين تنهار قيمة الكفاءة أمام المال، يهرب المبدعون من المجال العام.
تكريس اللامساواة: البرلمان يصبح واجهة للأثرياء، لا ممثلاً لكل فئات الشعب.
ما نشهده اليوم ليس مجرد فضيحة انتخابية، بل تحذير خطير من مسار يهدد هوية الدولة واستقرارها السياسي والاجتماعي. فالمعركة الحقيقية ليست على مقاعد البرلمان، بل على روح الوطن ذاته. وإذا لم نواجه المال السياسي بكل حزم، سنكون قد سمحنا بتحويل الديمقراطية إلى سلعة، والوطن إلى غنيمة.