فى بروكسل، لم يكن المشهد عن أوروبا التى تبحث عن شركاء فى الجنوب، بل عن جنوبٍ يعرف قيمته ويحدد شروط الحوار. هذه المرة، لم تذهب مصر لتطلب أو تبرر بل لتعرض رؤيتها للعلاقة مع القارة التى طالما نظرت إلى الجنوب كمنطقة نفوذ. على الطاولة، لم يكن ملف المساعدات هو العنوان، بل معادلة جديدة من «الندية الذكية» توازن فيها القاهرة بين مصالحها الوطنية ومصالح أوروبا وبين الأمن الإقليمى والتنمية الاقتصادية للجانبين.
توقيت القمة لم يكن عابرًا، لكنه يتزامن مع أزمة طاقة تواجهها القارة العجوز، إلى جانب ضغوط هجرة غير شرعية، وحرب تستنزف مواردها فى الشرق، بينما تبدو مصر أكثر استقرارا من محيطها، وأكثر قدرة على التحرك كفاعل إقليمى مسؤول. لذلك، كانت القمة المصرية الأوروبية لحظة اختبار حقيقية.. هل تستطيع مصر أن تفرض رؤيتها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.. وكانت الإجابة واضحة كالشمس للجميع.. نعم.
ولا يخفى على أحد أنه خلال السنوات الأخيرة، تحولت القاهرة من متلق للتعاون إلى صانع للتوازنات. خطابها السياسى أمام الأوروبيين لم يعد يعتمد على العاطفة أو المظلومية، بل على الأرقام، والمشروعات، والتأثير الواقعى فى ملفات الأمن والطاقة والهجرة. تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى فى بروكسل بوضوح: مصر لا تطلب دعما، بل تقدم شراكة تضمن مصالح الجميع. هذا التحول فى صياغة الخطاب الدبلوماسى هو جوهر المكسب السياسى للقاهرة من القمة، أما المكاسب الاقتصادية، فهى الوجه العملى لتلك الندية، فالاتفاق المالى الجديد مع الاتحاد الأوروبى ليس منحة، بل استثمار متبادل فى الاستقرار.
كما كشفت ملفات الطاقة المتجددة، الهيدروجين الأخضر، وربط الشبكات الكهربائية عن توجه أوروبى نحو تحويل التعاون مع مصر إلى شراكة إنتاجية، لا مجرد تمويل مرحلى. ومع تحول القاهرة إلى مركز إقليمى للغاز، باتت تمتلك ورقة ضغط واقعية فى أى معادلة تخص أمن الطاقة الأوروبى، لكن ربما المكسب الأعمق هو إعادة تعريف الخطاب المصرى تجاه أوروبا. لم يكن دفاعا تقليديا عن قضايا الجنوب، بل عرض واقعي للحقائق: لا استقرار لأوروبا دون تنمية فى الجنوب، ولا أمن دون حلول عادلة فى فلسطين.. فالخطاب المصرى فى بروكسل جاء متزنًا، عقلانيًا، خاليًا من الانفعال، لكنه محملًا بثقة الدولة التى تعرف وزنها.
وأخيرا.. بات من الواضح أن قمة بروكسل نقطة انطلاق لا نهاية. فمصر الآن تتعامل مع أوروبا بمنطق بمنطق الشريك الذى يمتلك خياراته، ويعرف أن الاستقلال السياسى يبدأ من وضوح الرؤية لا من صخب المواقف. ومن هنا يمكن القول إن القاهرة خرجت من بروكسل وهى أكثر حضورا فى الوعى الأوروبى، وأكثر قدرة على صياغة مستقبل العلاقات من موقع الندية والتأثير.
المكاسب الاقتصادية للقمة كبيرة ومتعددة، حيث رأينا الاختفاء الكبير من دول الاتحاد الأوروبى بمصر والإشادة باقتصادها وأنها سوق واعدة لجذب الاستثمارات، والحقيقة أن القمة روجت بشكل قوى لمصر اقتصاديا، ونتج عنها مؤشرات جيدة وإيجابية بأن مصر ستكون بوابة الاستثمار الأوروبى فى القارة الأفريقية.
 
                    
          
                 
    
