من أبرز مفارقات أدب نجيب محفوظ أن الكاتب الذى سجّل تفاصيل الحياة الشعبية المصرية بدقّة، جعل أبطاله جميعاً يتحدثون بلغةٍ لا تشبههم. فالمعلّم كرشة و«سى السيد» والطبيب والراقصة والمحامى والموظّف، كلّهم عند محفوظ يتكلّمون العربية الفصحى، لا لغة الشارع والمقهى والبيت.
لقد قدّم مصرَ فى صورةٍ فنيةٍ بديعة، لكنها تتكلّم بلسانٍ رسمى أقرب إلى لغة مؤسسات الدولة منها إلى لغة الناس. وهنا تتبدّى المفارقة: كيف يستطيع الروائى الواقعى الأكبر أن يكتب عن عوام الناس من دون أن يتركهم يتحدثون بلغتهم اليومية؟
لم يكن هذا الخيار مجرّد ذوقٍ فنى، بل كان موقفاً فكرياً من اللغة والهوية. فقد رأى محفوظ، شأنه شأن طه حسين، فى العامية المصرية داءً اجتماعياً يجب معالجته لا توثيقه، وعدَّ الفصحى رمزاً للهيبة الحضارية وضمانة لاستمرار التراث العربى. لذلك أصرّ على الكتابة بلغة أدبية خالصة مهما تغيّرت طبقات أبطاله. لكنّ هذا الخيار خلق فجوةً بين مصر المكتوبة ومصر المتكلّمة: فالقاهرة التى نقرأها فى رواياته ليست القاهرة التى نسمعها فى الشارع. لقد نقل محفوظ حياة الفقراء والمهمَّشين، لكنه جرّدهم من لغتهم التى تجسّد ألفاظهم وتعبيراتهم فى الفرح والحزن واللحظات الحميمة كما فى طرق الملاسنة والسخرية والمودة واللطف.
فى المقابل، وظّف يوسف إدريس العامية توظيفاً قوياً ومؤثراً فى الرواية والمسرحية، وعدها توفيق الحكيم طاقةً فنيةً لتجديد الأدب، فالمسألة اللغوية فى الأدب المصرى ليست نحويةً أو لفظية، بل مسألة هوية وصدق فى التعبير عن نبض الحياة. وبينما كتب محفوظ السرد والحوار بلغةٍ تنسجم مع لغة المؤسسة والسلطة، ظلّ كتاب آخرون يوظّفون صوتَ الشعب المتمرّد القادر على قول ما تعجز عنه الفصحى الرسمية.
ويبقى السؤال الجوهرى: من يتحدث باسم مصر؟ أهو محفوظ بلغته المصفّاة التى تخاطب المنصة، أم شاعر العامية بلسانه الشعبى الذى يعبر عن أفراح وأوجاع الامة المصرية؟ بين هذين الصوتين تتجسّد معركة مصر الثقافية بين الرسمى والشعبى، بين إيقاع الحرف المطبوع وصوت الحياة المسموع.
ورغم التناقض بين واقعيته الاجتماعية ومحافظته اللغوية، لم يرَ محفوظ نفسه متناقضاً. ففى صفحات من مذكّرات نجيب محفوظ، يروى رجاء النقاش أن محفوظ دافع عن عمله فى الرقابة على المصنّفات الفنية قائلاً إنه مارس مهمّته بعقلية الفنان لا الرقيب، معتبراً الرقابة وسيلةً لحماية سياسة الدولة العليا ومنع الفتن الطائفية، لا أداةً لتقييد الإبداع. وأكّد أنه لم يشعر يوماً بأنه يخون الفن، بل رأى فى منصبه وسيلةً لخدمة القيم الجمالية فى إطار النظام العام.
هكذا يبقى محفوظ، بكل تناقضاته، مرآة لازدواجية بلادنا بين الرسمى والشعبى، بين لغتين تتنازعان صورة الوطن وصوته.