“أسرار الليلة الكبيرة”.. كيف صاغ المصريون طقوس المولد النبوي بين الساحة والمسرح؟

كلما أطلّ الثاني عشر من ربيع الأول، تعود إلى الأذهان أصداء أوبريت “الليلة الكبيرة” التي أبدعها صلاح جاهين وسيد مكاوي قبل ستة عقود.
هذا العمل لم يكن مجرد غناء للأطفال على مسرح العرائس، بل صار أيقونة تجمع الجانب الديني المرتبط بقدسية المولد النبوي، مع الجانب الثقافي والاجتماعي الذي يعكس عادات المصريين في مواسم الفرح، والجانب الفني الذي أرسى أسلوبًا متفردًا في توثيق التراث الشعبي.
قدسية المولد النبوي وبهجة الذكر
المولد النبوي في الوعي الإسلامي ليس مجرد احتفال، بل مناسبة روحية يعبر فيها الناس عن محبتهم للنبي ﷺ، من خلال الذكر، تلاوة القرآن، حلقات الإنشاد، وإقامة الولائم وحلوى المولد.
- الصوفية يحرصون على المواكب والذكر الجماعي طلبًا للصفاء الروحي.
- الأزهر الشريف يرى في المولد تعبيرًا مشروعًا عن المحبة، بل وصفه بعض العلماء بـ “البدعة الحسنة”.
- في “الليلة الكبيرة” نسمع أصداء هذا الجانب الديني في ترديد الأذان في ختام الأوبريت، وفي كلمات جاهين التي تُقدّم النبي باعتباره “مصدر إشعاع الدين”، ليؤكد أن المصريين جميعًا “من محاسيب النبي”.
الجانب الثقافي: الموالد ككرنفال شعبي
الموالد في مصر، وعلى رأسها المولد النبوي، ليست مجرد طقوس دينية؛ بل كرنفال اجتماعي وثقافي يجتمع فيه أهل الريف والبندر.
- تنتصب الشوادر في الشوارع لبيع الحلوى والعرائس والدمى، ويجتمع الناس حول الباعة الذين ينادون بلهجاتهم الشعبية.
- تتحول الساحات إلى ملتقى واسع: أسر تفترش الأرض لإطعام الطعام، وأطفال يمرحون في المراجيح والزحاليق، وشباب يجربون مهاراتهم في “النشان” ودفع “الطارة”.
- الباحثون في الفولكلور يصفون هذه الموالد بأنها مواسم تختلط فيها البركة الاقتصادية بالفرحة الدينية، حيث يجد التجار رزقهم، ويعتبر المشترون أن الشراء نفسه نوع من التبرك بالمناسبة.
الجانب الفني: “الليلة الكبيرة” كأرشيف للوجدان
من الناحية الفنية، يعدّ أوبريت “الليلة الكبيرة” علامة بارزة في المسرح والموسيقى المصرية:
- التأليف الشعري: صلاح جاهين صاغ صورًا بصرية ساخرة وبسيطة في آن، قادرة على مخاطبة الطفل والكبير.
- الألحان: سيد مكاوي نسج موسيقى قريبة من آذان المصريين، تستند إلى مقامات شرقية وتتماشى مع إيقاعات الطبول والدفوف.
- التجسيد المسرحي: صلاح السقّا قدّم العمل على مسرح العرائس، بينما أبدع ناجي شاكر في تصميم العرائس التي عكست وجوه المصريين، من الباعة إلى المتصوفة.
- الأرشفة الشعبية: الأوبريت وثّق مهنًا كانت مرتبطة بالموالد مثل المصوراتي والأراجوز، وهو فن اعترفت به اليونسكو كتراث إنساني يحتاج إلى صون عاجل.
تلاقي الدين مع الثقافة والفن
“الليلة الكبيرة” لا تنفصل عن بعدها الديني الذي يجلّ ذكرى مولد النبي ﷺ، لكنها في الوقت ذاته تعكس كيف يعيش المصريون الدين ممزوجًا بالفرح، وكيف تحولت المناسبة إلى موروث ثقافي وفني.
فهي تُظهر أن الاحتفال الديني يمكن أن يكون مصدرًا للإبداع الفني، وأن الفن بدوره قادر على حفظ طقوس دينية واجتماعية للأجيال.
خاتمة: المولد بين القداسة والكرنفال
يظل المولد النبوي الشريف في مصر نموذجًا على قدرة الشعوب على المزج بين الروحانية والاحتفالية، وبين التراث الشعبي والإبداع الفني. “الليلة الكبيرة” ليست مجرد أوبريت؛ بل شهادة بصرية وسمعية على أن الدين في الثقافة المصرية يرتبط بالفرح، وأن محبة النبي ﷺ تُترجم بالذكر والإنشاد كما تُترجم بالزينة والبهجة.
وبين الأذان في ختام الأوبريت وصوت الجماهير في الساحات، يبقى المولد النبوي مناسبةً تجمع الدين بالثقافة بالفن، في مشهد لا يتكرر إلا في “الليلة الكبيرة”.