خفايا الترند

بين الوهم والحقيقة.. منابر التواصل تصنع أبطالًا من ورق
فتوى: ما لم نتحقق من صحته يحرم نشره
ثقافة القطيع تدفع الغالبية للانجراف وراءه
على الآباء والأمهات القدوة فى دعم المحتوى الهادف
لم يعد «الترند» مجرد موجة عابرة على مواقع التواصل الاجتماعى، بل صار ظاهرة تبتلع العقول وتحدد سلوك الناس واختياراتهم اليومية، من كلماتهم وملابسهم، إلى ما يشاهدونه ويستهلكونه، لم يعد التفاعل مع الترند رفاهية أو مجرد تسلية، بل تحول إلى حالة من الانجراف الجماعى، حيث يركض الملايين خلف مقطع ترند بلا وعى، وكأنهم أسرى لثقافة قطيع فقدت القدرة على التمييز بين ما هو حقيقى وما هو زائف، وما هو قيم وما هو تافه.
الخطورة هنا
خطورة الترند لم تقف عند حدود التفاهة أو تقليد «البلوجرز» وصناعة الوهم، بل انزلقت أحيانًا إلى السفه، والانحلال، وصل لارتكاب جرائم موثقة بالكاميرات، لتكشف كيف يمكن لموجة ترند أن تجر المجتمع كله متعلمين وغير متعلمين إلى هاوية أخلاقية خطيرة.
وكثيرًا ما ينجرف الترند وراء شائعات ومعلومات غير حقيقية، لدرجة أنه يهز الثوابت ويجعل الأغلبية تلهث خلفه دون تدقيق، وهو ما يثير غضبى ويعيد إلى ذهنى مقولة المتنبي: «وليس يصح فى الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.
«الترندات فى مصر»
فى عام 2022 اجتاحت أغنية الغزالة رايقة الشوارع والمدارس والحفلات، وانتشرت على لسان الكبار والصغار، حتى تحولت إلى حالة اجتماعية عامة، رغم أن كثيرين لم يعرفوا أصلها أو مغزاها، وانتشار فيديو لفتاة التوك توك لفتت فيه الأنظار، لتصبح مادة للسخرية والتقليد، قبل أن تتحول قضيتها لاحقًا إلى نقاش واسع حول الفقر والطبقية فى المجتمع، وفى 2024، سيطر المشهد الرياضى على الترند، سواء بهدف كهربا فى مباراة الأهلى والزمالك، أو بتصريحات مدربين تحولت إلى «كوميكس» اجتاحت الصفحات آلاف المرات، وصولًا إلى تريندات سطحية مثل «تجربة الكركم» التى شغلت الناس لأيام، والعديد من المشاهد التافهه التى تهبط بالذوق العام.
«محاكمات جماهيرية»
تحول المشهد على مواقع التواصل الاجتماعى إلى ما يشبه «المحاكمات الجماهيرية»، حيث يكفى انتشار مقطع فيديو يصبح ترند لأى شخص حتى تبدأ موجة من الهجوم العنيف، وإلقاء التهم دون تحقق من صحتها أو انتظار كلمة القضاء، تابعنا مؤخرًا، حملات مماثلة ضد بعض المشاهير عقب تسريب مقاطع شخصية أو تصريحات مثيرة للجدل، لتتحول حياتهم الخاصة إلى مادة للنقاش والجدل العام، من دون أن تتاح لهم فرصة للدفاع عن أنفسهم أو انتظار نتائج التحقيقات الرسمية
ووقائع مماثلة كثيرة لأشخاص انتُهكت حياتهم الشخصية بسبب الترندات.
خطورة الترند
منذ أيام قليلة، انتشر مقطع فيديو لشباب يقودون دراجة نارية ويعتدون على المارة بالضرب على أقفيتهم، قبل أن تلقى الشرطة القبض عليهم ليكونوا عبرة لغيرهم.
هذه النماذج كشفت الهوس بالانتشار والشهرة ولم تعد تقف عند المزاح أو التفاهة، بل تحول إلى تهديد حقيقى للأمن والأخلاق، ومرآة مأساوية لحالة مجتمع يلهث وراء كل ما يلمع دون وعى أو مسئولية، فلم يعد الترند مجرد مساحة للضحك أو التقليد، بل تحول إلى سلطة خفية تتحكم فى وعى الناس، وتعيد تشكيل أولوياتهم وقيمهم، وتدفعهم أحيانًا إلى الانحراف أو حتى ارتكاب الجرائم، المأساة أن هذا الانجراف لا يفرق بين متعلم وجاهل، كبير أو صغير، فالكل أصبح أسيرًا لثقافة سطحية تقتل فينا التفكير النقدى والقدرة على التمييز بين الصح والغلط وبين الحقائق والأكاذيب.
آراء الشباب
التقت الوفد مجموعة من الشباب لمعرفة آرائهم حول الترند أكد حسين 22 عامًا طالب جامعى، أنه يتابع الترندات بشكل يومى وقال: «مش فارق معايا مين غلط ومين صح، أنا بهتم أكون موجود مع الناس وبنزل بوست أو فيديو عشان التفاعل، ساعات بعمل حاجات مش مقتنع بيها بس بضحك وخلاص».
بينما تقول داليا 25 عامًا موظفة فى شركة خاصة: «بصراحة الترندات بقت مرهقة، كل يوم حاجة جديدة، ولو ما شاركتش بتحس إنك برة السرب، بس كمان فى حاجات مفيدة زى الترندات اللى بتنشر وعى عن الصحة أو بتدعم قضايا إنسانية».
أما عادل صاحب الـ20 عامًا فيؤكد أنه توقف عن ملاحقة الترند: «حسيت إننا بنتعامل بعقلية قطيع، ونستهلك فى موضوع وبينما نترك موضوع أهم، الترند أحيانًا يجعل الناس تظلم وربما تدمر حياتهم بدون تأكد.
ويبقى السؤال: هل نستفيق قبل أن يصبح مجتمعنا مجرد صدى لصوت الترند بلا شخصية ولا مبادئ، أم سنظل نلهث خلف كل ما يلمع حتى نسقط فى هاوية لا عودة منها؟

الإرشاد النفسي
قالت الدكتورة نادية جمال، استشارى الإرشاد النفسى والعلاقات الأسرية، إن ثقافة القطيع هى التى تدفع أغلب الشباب، خاصة فى أعمار معينة، إلى الانجراف وراء الترندات، حيث يشعر الفرد بحاجة دائمة إلى الانتماء لفكرة أو جماعة.
وأضافت أن «الترند أصبح الآن هو المحور الأساسى فى التواصل، فالشاب يظن أنه إذا ابتعد عن متابعة الترندات فلن يجد موضوعًا مشتركًا يتحدث فيه مع أصدقائه أو من حوله، سواء فى الدائرة الصغيرة أو الكبيرة».
وتابعت: «غالبًا ما نجد أن كثيرًا من الشباب يتابعون ترندات لا تتوافق مع أفكارهم أو قناعاتهم، ومع ذلك يسايرونها لأن العقل الباطن لا يحب الاختلاف عن الجماعة، بل يشعر بأن الرأى المخالف قد يُعرِّض صاحبه للانتقاد أو العزلة، ومن هنا يظهر الخوف من الرفض أو النقد، وأحيانًا ضعف الثقة بالنفس، حيث يظن البعض أن رأى الأغلبية صحيح لمجرد أنه حصد آلاف المشاركات والإعجابات، حتى وإن كانوا غير مقتنعين به».
وأشارت إلى أن الترندات تؤثر على الصحة النفسية للشباب، فجانبها الإيجابى يتمثل فى خلق شعور بالانتماء إذا ارتبطت بقضايا اجتماعية أو دينية معتدلة، كما تمنحهم معلومات جديدة، وتشجعهم على المشاركة المجتمعية، وتُكسبهم مهارات النقاش، وتفتح أمامهم آفاقًا لأفكار وثقافات مختلفة.
أوضحت استشارى الإرشاد النفسى أن الجانب السلبى يكمن فى المقارنات المستمرة مع الآخرين على مواقع التواصل، سواء فى المظهر أو المستوى المادى أو نمط الحياة، وهو ما يؤدى إلى اهتزاز الثقة بالنفس، وتقليد نماذج غير مناسبة، إضافة إلى أن بعض الترندات تُصدِّر أفكارًا ومشاعر سلبية، بل وتُروّج لأساليب غير سوية قد تصل إلى جرائم.
إدمان الترند
وأكدت نادية جمال أن الانشغال المفرط بالترندات قد يتحول إلى إدمان للتواصل الاجتماعى، وهو ما ينتج عنه توتر، قلق، ضعف فى التركيز، وحتى انعزال اجتماعي؛ حيث يكتفى البعض بعالم الهاتف والإنترنت على حساب التواصل الواقعى مع الآخرين وذلك يؤدى أيضًا إلى مشكلات صحية مثل الصداع، الأرق، والإصابة بالاكتئاب.
فتوى الدين
قال الشيخ على المطيعى، أحد علماء الأزهر الشريف، إن قضية الترندات بالغة الخطورة، خاصة حين تتعلق بنشر الفتاوى والمعلومات الدينية المغلوطة، والتى يتم تداولها بلا تحقق، لمجرد أنها أصبحت «ترند».
وأشار إلى أن نشر أى فتوى أو معلومة دون الرجوع إلى مصادر موثوقة يُعد حرامًا شرعًا، مؤكدًا أن أخطر ما فى الترندات هو ما يمس الدين والعقيدة، إذ يروّج أعداء الإسلام لمنشورات باطلة مثل الادعاء بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب، وهو أمر منافٍ للحقيقة، فالأمية كانت معجزته التى تحدى بها العالم بالقرآن الكريم.
وأضاف أن من بين المنشورات الخاطئة التى تتكرر مثلًا القول بعدم جواز إخراج الزكاة نقدًا، والاكتفاء بالحبوب فقط، وهذه معلومات مغلوطة تنتشر بالجهل والتقليد، متجاهلة وجود الأزهر والجهات الرسمية للإفتاء.
وشدد المطيعى على أن بعض الترندات لا تقف عند حدود الدين فقط، بل تمس الأمن القومى عبر نشر الأكاذيب والشائعات التى يطلقها أعداء الوطن، كما أن هناك تحديات خطيرة تُعرض حياة الشباب للخطر، وكل ما يؤدى إلى إهلاك النفس أو الإضرار بالآخرين محرم شرعًا.
وانتقد الشيخ المطيعى ما وصفه بـ«حب الظهور الأعمى»، مؤكدًا أن الظهور عبر مواقع التواصل يجب أن يكون هادفًا، كأن يقدم طبيب نصائح طبية مفيدة، أو عالم ينشر علمًا نافعًا، أما أن يصبح التافهون قدوة، أو أن تُقدَّم محتويات هابطة بدعوى أنها «ترند»، فذلك انحراف خطير.
واستشهد بحديث النبى صلى الله عليه وسلم: «لا يكن أحدكم إمعة»، مشددًا على أن المسلم يجب أن تكون له شخصيته المستقلة، لا أن يسير خلف أى موجة بلا وعى.
وأكد أن دور الأسرة والمعلمين محورى فى توعية النشء، وغرس قيم التمييز بين الحق والباطل منذ الصغر، ويأتى دور الأسرة أولًا لأنها هى أساس التربية السليمة للأطفال حتى قبل سن المدرسة يجب غرس القيم فى أطفالنا ثم يأتى بعد ذلك دور المعلمين والمدرسة، محذرًا من أن كثيرًا من الكبار أنفسهم باتوا يروجون محتويات فارغة وبعضها يروج للانحلال ويتم غيرها ومتابعتها وهذه كارثة.
واختتم قائلًا: «ما لم نتحقق من صحته يحرم نشره، وعلينا أن نستغل مواقع التواصل لنشر الخير، مثل حملات مساعدة الأيتام والتبرع للمستشفيات، لا أن ننجرف وراء أى ترند لمجرد التقليد، وإلا أصبحنا مجرد أتباع بلا وعى.

غياب الرقابة الأسرية
أوضحت داليا الحزاوى، الخبيرة التربوية ومؤسس ائتلاف أولياء أمور مصر، أن ثقافة الترند بدأت فى الانتشار بشكل كبير، خاصة بين فئة الشباب والأطفال، فى ظل غياب واضح للرقابة الأسرية واقتصار دور الأسرة على تلبية الاحتياجات المادية فقط.
وأشارت إلى أن اللافت فى الأمر هو التقليد الأعمى لهذا الترند بدون وعى بعواقب هذه السلوكيات، خصوصًا إذا كان محتوى الترند يخالف القيم المجتمعية ويتضمن ألفاظًا وإيحاءات خادشة للحياء.
أكدت «الحزاوى» أهمية دور الأسرة فى مراقبة ما يشاهده الأبناء من محتوى وما يقومون به على الإنترنت، مع ضرورة شغل أوقاتهم بأنشطة مفيدة.
كما دعت الآباء والأمهات إلى أن يكونوا قدوة فى دعم المحتوى الهادف والابتعاد عن متابعة النماذج الهابطة والترندات والمشاركة فى انتشارها. وأشارت إلى ضرورة تسليط الضوء على صناع المحتوى الإيجابى الذى يرتقى بفكر وقيم المجتمع.
أضافت «الحزاوى» أن المدارس لها دور مهم فى زيادة الوعى الرقمى، ويكون ذلك متناسبًا مع مختلف الأعمار، وتنمية الحس الأخلاقى بحيث يستطيع الطلاب رفض الترند السلبى الذى يضر بالغير.
أشارت «الحزاوى» إلى أن هناك بعض الترندات الإيجابية التى انتشرت مؤخرًا، مثل تريند المعلمين، والذى كان فكرة إيجابية ومبهجة تعبر عن الحب والامتنان الذى يشعر به الطالب اتجاه المعلم.
وأكدت أهمية تشجيع مثل هذه الترندات الإيجابية ونشرها، قائلة إن ليست كل الترندات سيئة، ولكن لا بد أن يكون هناك وعي وحس أخلاقي.
دعم المحتوى الهادف
أطلقت داليا الحزاوى، حملة توعوية بعنوان «ادعم المحتوى الراقي» تهدف الحملة إلى تسليط الضوء على الصفحات والشخصيات المؤثرة التى تقدم محتوى هادفًا ومفيدًا ومحترمًا وتقوم فكرة الحملة على تشجيع رواد السوشيال ميديا بعمل «مينشن» للصفحات والشخصيات التى تقدم محتوى راقٍ، كنوع من الدعم المعنوى والتحفيز للاستمرار.
تزامنت هذه المبادرة مع مجهودات وزارة الداخلية المصرية، حيث شنت حملات موسعة ضد صناع محتوى على منصة «تيك توك» مخالفين للقانون، حيث ثبت تورطهم ببث مقاطع فيديو وصفت بـ«الخادشة للحياء». وجاءت الحملات بعد عدة بلاغات تقدم بها مواطنون ومحامون مصريون ضد عدد من «البلوجرز» و«اليوتيوبرز»، اتهموا فيها صناع المحتوى بالترويج لممارسات تسيء للمجتمع.


