حكاية وطن
التاريخ خير شاهد على تصرفات الأنظمة وسلوك البشر، لا يترك شاردة أو واردة إلا ويذكرها ويحفظها فى سجلات ناصعة البياض إذا كان فيها سعادة الشعوب، أو فى سجلات حالكة السواد إذا كانت فيها تعاسته، والهدف من هذا التسجيل استفادة البشرية من الإيجابيات والسلبيات.
سيظل التاريخ يذكر أن حزب الوفد فى فترة الملكية حصل على الأغلبية البرلمانية فى أول انتخابات أجريت فى 15 يناير 1924، فى ظل دستور 1923، وحصل الحزب على الأغلبية بحصد 195 مقعداً وسقط فى هذه الانتخابات رئيس وزراء مصر فى ذلك الوقت، يحيى إبراهيم باشا، وفاز عليه مرشح الوفد أحمد مرعى، والد المهندس سيد مرعى فى دائرة منيا القمح. سقوط رئيس الوزراء وشهر خصوم سعد زغلول باشا يعتبر شهادة ناطقة بنزاهة الانتخابات التى لم تتدخل فيها لصالح رئيسها، ولم يتعرض فيها الناخبون لأى ضغوط واختاروا مرشحى الوفد بإرادتهم دون تهديد أو وعيد، وتقبل رئيس الوزراء الذى لم يحالفه التوفيق فى نتيجة الانتخابات، وأعلن استقالة الوزارة، وعلى أثر ذلك كلف الملك فؤاد، سعد زغلول باشا زعيم الوفد بتشكيل الوزارة فى 28 يناير من نفس العام، وجاء فى خطاب التكليف الذى ما زال يحفظه التاريخ كنقطة مضيئة وإيجابية على تسليم وتسلم السلطة بعد منافسة شريفة فى انتخابات لم تعرف الرشاوى ولا الترهيب، جاء فى خطاب الملك إلى زعيم الوفد: «عزيزى سعد زغلول باشا: لما كانت آمالنا ورغائبنا متوجهة دائماً نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهيته وبما أن بلادنا تستقبل الآن عهداً جديداً من أسمى أمانينا أن نبلغ فيه ما نرجوه لها من رفعة الشأن وعلو المكانة، ولما أنتم عليه من الصدق والولاء، وما تحققناه فيكم من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأى فى تصريف الأمور، وبما لنا فيكم من الثقة التامة، فقد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رياسة مجلس وزرائنا من رتبة الرياسة الجليلة لعهدتكم».
أما عن السلبيات التى تقع فى مزبلة التاريخ وتسجل فى أسود صفحاته لتكون عبرة لمن تسول به نفسه تزوير إرادة الأمة فهى أحط انتخابات برلمانية أجريت فى العصر الحديث، وهى انتخابات مجلس الشعب عام 2010.. آخر انتخابات أجراها النظام المنحل، وكانت سبباً رئيسياً فى سقوط النظام بالكامل، وتعتبر شرارة خطيرة فى قيام ثورة 25 يناير 2011. فى هذه الانتخابات التى أحاطتها الشياطين، غابت الإرادة السياسية اللازمة لتنظيم انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، وقيدت السلطة حق المواطن فى الترشح، وحق الناخب فى الإلمام بالمعلومات الضرورية ذات الصلة بالعملية الانتخابية، وحالت سيارات النقل المحملة بالبلطجية والشوم دون وصول الناخبين إلى صناديق الانتخابات، واستبدلت الأجهزة الموتى والمسجلين خطر بالمقيدين فى جداول الانتخابات الذين لهم الحق فى التصويت، وانحازت الجهات الحكومية لمرشحى الحزب الذى أطلق على نفسه الحزب الوطنى الديمقراطى، وانتهت الانتخابات بأخطر فضيحة عندما استولى الحزب الحاكم على جميع المقاعد، وجلس نوابه فوق مقاعدهم يحدثون أنفسهم ويقومون بدور المؤيدين والمعارضين والحكومة أيضاً. وفشل المجلس فى القيام بدوره، كما فشل فى احتواء أزمة الطعون حتى وصل إلى الحل، وهو الحل وضاع كما ضاعت السلطة بالكامل.
حل مجلس الشعب المزور وسقوط النظام لم يمح من ذاكرة الشعب ما حدث من الوقود ضد إرادته، وظل شبح هذه الانتخابات يراوده لما اقتربت انتخابات جديدة، فهى - أى الانتخابات المزورة عام 2010 - تحولت إلى ما يشبه الآثار الجانبية لدواء مر لم يعالج الداء، وظلت مرارته فى الحلقوم تطفح عند كل استحقاق خوفاً من التزوير، رغم الطمأنة شبه التامة حالياً بأن عصر تزوير إرادة الشعب لن يعود، وأن الانتخابات فى أيدٍ أمينة من بدايتها إلى نهايتها، وأن الانتخابات بالقائمة المغلقة ليست سلبية بالكامل فلها إيجابيات كثيرة كل ما نحتاجه هو تحرك الأحزاب السياسية وخروجها من غرف الإنعاش التى حجزت نفسها فيها، وأن تسعى إلى الاندماج حتى نرى أحزاب تتنافس فى الانتخابات لإثراء العملية السياسية، الأحزاب التى تجلس خلف المكاتب، وتنعزل عن الشارع وتنتظر «مقاعد» لا تستحق البقاء، الأحزاب التى تلتحم بالشارع وتشارك فى المسئولية وتحل مشاكلها الداخلية هى التى تستحق شرف التمثيل. التاريخ لن ينظر إلى المتقاعسين ولن يتجاهل الإشادة بالجادين ولن يلتفت إلى الأحزاب الورقية التى تتوارى خلف اليفط فى أوضة وصالة! من جد وجد حتى فى الممارسة السياسية.