أزمة الصحافة الورقية في مصر بين التحديات والتحولات الرقمية

أزمة الصحافة الورقية في مصر لم تعد مجرد ظاهرة عابرة، بل تحولت إلى قضية كبرى ترتبط بتراجع أعداد القراء وتقلص حجم المبيعات اليومية، مع تصاعد تأثير الإعلام الرقمي على الأجيال الجديدة وتفاقم الأعباء الاقتصادية التي تواجه المؤسسات الصحفية التقليدية.
أزمة الصحافة الورقية في مصر
باتت أزمة الصحافة الورقية في مصر من أكثر الملفات جدلاً في الوسط الإعلامي، إذ تشير الإحصاءات إلى تراجع ملحوظ في نسب توزيع الصحف اليومية وانخفاض معدلات القراءة مقارنة بالعقود السابقة. ففي عام 2013 كان ربع المصريين تقريباً يطالعون الصحف المطبوعة، إلا أن النسبة انخفضت إلى نحو 16% فقط بحلول عام 2017.
أما نسبة من يشترون الصحف بشكل مباشر فلم تتجاوز 5% من إجمالي السكان. وفي المقابل، تراجع حجم النسخ المطبوعة من نحو ثلاثة ملايين نسخة يومياً في مطلع الألفية إلى أقل من 200 ألف نسخة في عام 2018، ثم إلى 700 ألف نسخة تقريباً في السنوات الأخيرة، وهو ما يعكس تراجعاً حاداً يهدد بقاء هذه الصناعة.
العوامل الاقتصادية وتفاقم الديون
يعد الجانب المالي من أبرز أسباب الأزمة، حيث ارتفعت تكاليف الورق والطباعة في ظل انخفاض عائدات الإعلانات التي كانت تمثل شريان الحياة للصحف، مؤسسات صحفية حكومية كبرى تواجه ديوناً بمليارات الجنيهات تراكمت نتيجة سوء الإدارة ونقص التمويل.
كما أن العائد على الاستثمار في هذا القطاع أصبح ضعيفاً مقارنة بالتكلفة، وهو ما يضع المؤسسات أمام معادلة خاسرة تقتضي إما إعادة الهيكلة أو الخروج من السوق.
تحولات الجمهور نحو المنصات الرقمية
الجمهور المصري لم يعد كما كان في السابق، فالأجيال الشابة باتت تميل إلى الحصول على الأخبار عبر الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي.
تؤكد التقارير الحديثة أن نحو 65% من الشباب لا يقرؤون الصحف الورقية على الإطلاق، بينما لا تتجاوز نسبة المواظبين على متابعتها 7% فقط، هذا التحول انعكس بشكل مباشر على المبيعات والإعلانات، ودفع المؤسسات إلى البحث عن حلول جديدة لمواكبة العصر الرقمي.

ضعف الأداء المؤسسي وهيمنة البيروقراطية
المشكلة لا تقف عند الجانب المالي والجمهور، بل تمتد إلى الأداء المؤسسي نفسه. فالكثير من الصحف لم تطور محتواها ولم تبتكر نماذج أعمال تتناسب مع متطلبات العصر الرقمي.
تسير إجراءات ترخيص المنصات الرقمية ببطء شديد ولا تُطبق المدد القانونية بدقة، الأمر الذي يعرقل فرص التوسع والابتكار. كما أن بعض المؤسسات تعاني من بيروقراطية معقدة تحول دون التحديث الحقيقي لمحتواها أو بنيتها.
القيود التنظيمية والسياسية
تعد الضغوط السياسية والتنظيمية بدورها عاملاً محورياً في الأزمة، إذ تعاني بعض الصحف من الرقابة الذاتية أو تضييق حرية التعبير، خاصة تلك المملوكة للدولة أو الخاضعة لسيطرة رجال أعمال على ارتباط وثيق بمؤسسات أمنية، هذا المناخ جعل عدداً من الإصدارات تتحول إلى منصات دعائية أكثر من كونها منابر إعلامية مستقلة، وهو ما أثر سلباً على ثقة القارئ.

محاولات التحول الرقمي وابتكار التمويل
رغم هذه التحديات، بدأت بعض المؤسسات في اتخاذ خطوات للتحول الرقمي، مثل وقف بعض الإصدارات الورقية المسائية والاكتفاء بالمحتوى الإلكتروني منذ عام 2021.
كما تم إطلاق منصات رقمية بديلة، في محاولة لخلق قناة جديدة للتواصل مع القارئ، وفي الوقت نفسه ظهرت نماذج تمويل مبتكرة تعتمد على الرعاية والعضوية المدفوعة، على غرار نادي قراء الأهرام، إلى جانب الشراكات مع قطاعات السينما والتكنولوجيا.
الأوضاع المهنية للصحفيين
على صعيد الكوادر البشرية، يواجه الصحفيون أنفسهم تحديات قاسية، حيث يعاني كثيرون من ضعف الرواتب واضطرار نحو 41% منهم للعمل في وظائف إضافية لتأمين دخل ثابت، بينما يتعرض 27% للفصل التعسفي.
كما يعتمد العديد منهم على البدل بدلاً من الرواتب الأساسية، في ظل غياب تدريب كافي يواكب التحولات الرقمية، الأمر الذي جعل المهنة في نظر البعض مجرد وسيلة للانضمام إلى النقابة وليس ممارسة حقيقية للإعلام.

آفاق المستقبل والتوصيات
يري المستشار القانوني حسني محمد المحامي أن الحل يبدأ من إعادة هيكلة المؤسسات الصحفية الحكومية عبر تقليص العمالة الزائدة التي تصل إلى عشرات الآلاف، مع التركيز على تدريب الكوادر الشابة على أدوات الإعلام الرقمي.
كما يشد على ضرورة خلق جسر للتواصل بين الأجيال الجديدة والكوادر المخضرمة لضمان نقل الخبرات، فضلاً عن توفير بيئة أكثر حرية تسمح للمؤسسات باستعادة ثقة القارئ وتقديم محتوى مستقل وجاذب.
وأضاف تبدو أزمة الصحافة الورقية في مصر معقدة ومتشابكة، لكنها ليست مستحيلة الحل، فبينما يشير التراجع الكبير في نسب التوزيع إلى تحديات ضخمة، فإن فرص التحول الرقمي وابتكار نماذج جديدة للتمويل قد تمثل بوابة إنقاذ لهذه الصناعة العريقة إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية للتغيير.