حكاية وطن
توفى سعد زغلول باشا وهو رئيس حزب الوفد، وكان مصطفى النحاس باشا يشغل موقع الرجل الثانى فى الوفد أو سكرتير الوفد، وهو المنصب التالى للرئيس، لكن «النحاس» فى الوقت نفسه لم يكن من الذين يجيدون تقديم أنفسهم وتلميعها من أجل هذا المنصب أو ذاك، إنما كان من طراز الذين يعملون ويتركون لعمهم أن يتحدث عنهم، ولم يكن من أولئك الذين يجيدون رسم صورة أنفسهم وتهيئتها لما يطمحون إليه من مجد أو نفوذ.
ولعل هذا يفسر أن الصحافة البريطانية بدأت تتحدث عن أنها لم تتوقع ظهور زعيم من طراز «النحاس» ليخلف «سعد» عند وفاته، وفى يوم 14 سبتمبر 1927، اجتمع الوفد بكامل هيئته ليقرر انتخاب مصطفى النحاس رئيساً للحزب لكن الوفد قرر فى الوقت ذاته عدم الإعلان عن اختياره حتى يعرض الأمر على الهيئة البرلمانية للحزب.
وعن اختياره لهذا المنصب الرفيع روى «النحاس» فى مذكراته: «لقد اجتمع الوفد بكامل هيئته وأخذنا نناقش فيما يكون عليه الحال، وهل يعين رئيس الوفد أو تؤلف لجنة من عدد من الأعضاء لإدارة الأعمال، واستقر الرأى على أن يعين واحد رئيساً، وعرض علىّ رئاسة الوفد فاعتذرت عنها مفضلًا أن أكون سكرتيراً عاماً، حتى يمكننى أن أزاول مهنة المحاماة التى أتعيش منها، وقلت إنكم تعلمون أنى لا أملك مالاً ولا عقاراً وأن فى عنقى أسرة كبيرة أتولى شئونها، ورئاسة الوفد تحتاج إلى تفرغ تام، وإلى حصر كل الجهد فى خدمة القضية، وأخذت أتكلم وقد بلغ بى التأثر مبلغاً شديداً». وانبرى مرقص حنا باشا وقال: «ما هذا الكلام الذى تقوله.. أنت الرجل الذى نُفى إلى سيشل، لقد رشحناك رئيساً للوفد بإجماع آرائنا، ولا بد أن تنزل على إرادتنا وكل عذر لك أو احتجاج غير مقبولى.
«ووجمت وبلغ بى الألم مبلغاً كبيراً حتى سالت الدموع من عينى، ورضخت لحكم الحاضرين وصاغوا بياناً ضمنوه رأيهم بالإجماع، ولكن أرجئ إعلانه أو نشره فى الصحف حتى يُعرض على حرم الرئيس الجليل أم المصريين، واتفق على أن يظل الاجتماع ممتداً إلى الغد».
اجتمعت الهيئة الوفدية فى النادى السعدى وأبدت ترشيحى بالإجماع وتبادل عدد من الأعضاء إلقاء كلمات التهنئة والتأييد وألقيت عليهم خطاباً مطولاً نشرته الصحف فى أبرز مكان بها».
ظل «النحاس» باشا يكبر ذكرى سلفه سعد زغلول ومقامه وحديثه، وليس من اللائق أن نفاضل أو نقارن بين الزعامتين المهيبتين، الاثنان كانا على قدم المساواة، فى العداء للاحتلال، وفى مقاومة نفوذ السراى، وتوفيا فى شهر واحد وهو شهر أغسطس، حيث توفى سعد زغلول يوم 23 أغسطس 1927، وتوفى مصطفى النحاس يوم 23 أغسطس 1965، بعد أن تركا إرثاً عظـيماً من الوطنية تسير عليه الأجيال، وتتعلم منه الدرس فى الانتقال السلس للزعامة والبعد عن شهوة السلطة التى تجلب الصراعات، وأن يكون الاختيار لأفضل بإرادة الجماهير.