قيام الليل.. عبادة الأسرار ودواء القلوب في زمن الأزمات

لا تزال صلاة قيام الليل تحتل مكانة عظيمة في قلوب المؤمنين، إذ ارتبطت بأسمى صور الطاعة والخشوع، فهي ليست مجرد ركعات في جوف الليل، بل مناجاة صادقة بين العبد وربه، يبوح فيها بما يعجز عن قوله في وضح النهار.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ولم يتركها طوال حياته حتى في مرضه، ليجعل منها سرًا من أسرار القرب من الله، ومفتاحًا للسكينة والرضا.
سر الطمأنينة ونور الوجوه
قيام الليل مدرسة روحية متفردة، تعلّم المؤمن الصبر، وتربي في داخله قوة الإخلاص، حيث يختلي العبد بربه بعيدًا عن أعين الناس، فينال من الطمأنينة ما لا تجلبه ملذات الدنيا. يقول ابن القيم رحمه الله: "قيام الليل، وكثرة الاستغفار بالأسحار، وتعاهد الصدقة، والذكر أول النهار وآخره، تجلب الرزق". ولعل هذا ما يفسر أن وجوه القائمين بالليل يكسوها نور خاص، وقلوبهم تفيض سكينة، وأعمالهم أكثر بركة وتأثيرًا.
وقت نزول الرحمة
يخبرنا الرسول الكريم أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فينادي: «هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟» حتى يطلع الفجر. هنا يتجلى السر الأعظم لقيام الليل، إذ يصبح العبد في مواجهة مباشرة مع عطاء ربه، فيغتنم لحظات الصفاء والرحمة والقبول.
كيف نصلي قيام الليل؟
الأفضل أن تكون صلاة الليل مثنى مثنى، أي ركعتين ركعتين، يسلّم العبد بعد كل ركعتين، ثم يختمها بالوتر ركعة أو ثلاثًا أو أكثر. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين».
أما ما يقرأ في صلاة الليل، فالمسلم مخير بين ما يتيسر له من القرآن الكريم، لكن من السنة أن يرتل الآيات بتمهل وخشوع، فيسأل الله الرحمة عند آيات الرحمة، ويستعيذ عند آيات الوعيد، ويسبح عند آيات التسبيح.
فضل عظيم وأثر باقٍ
أجمع العلماء على أن قيام الليل من أعظم أسباب رفعة الدرجات ومغفرة الذنوب ودخول الجنة. وقد مدح الله أهله في كتابه فقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}. كما أنه شرف للمؤمن، وسر سعادته في الدنيا قبل الآخرة.
إن قيام الليل فرصة لا تعوض، خاصة في أوقات المحن والشدائد، حيث يلجأ المؤمن إلى ربه متضرعًا أن يكشف الكرب ويزيل الغمة. وهي عبادة لا تحتاج إلا إلى عزيمة صادقة، وصدق نية، وقليل من الصبر على ترك النوم، لينال العبد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.