رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

اﻟﻨﺤﺎس ﻧﻘﻰ اﻟﺴﺮﻳﺮة..ﻋﺎﺷﻖ اﻟﺒﺴﻄﺎء

ﻣﻮاﻗﻒ وﻃﻨﻴﺔ وﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺧﺎﻟﺪة

اﻟﺰﻋﻴﻢ اﻟﺬى ﻟﻦ ﻳﺠﻮد اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻤﺜﻠﻪ

 

فى سجل التاريخ تقف بعض الأسماء كالمنارات، تضىء الذاكرة الوطنية وتلهم الأجيال المتعاقبة.. ومن بين هؤلاء العظام يسطع أسم مصطفى النحاس باشا، الزعيم الذى لم يكن مجرد رجل سياسة، بل كان عاشقا لمصر بكل جوارحه، محبا لشعبها إلى حد الذوبان فيه.. لم يعرف بينه وبين المصريين حجاب، بل كان واحدا منهم، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم.. كان يرى فى الفلاح البسيط  قوة مصر الحقيقية، وفى العامل الكادح عزيمتها الصلبة، وفى الطالب الثائر مستقبلها الواعد.
لم يكن النحاس زعيماً يصنع مسافة بينه وبين الجماهير، بل كان يذوب فيهم ويستمد شرعيته من قلوبهم قبل صناديق الإنتخابات أو مقاعد السلطة.. عشق مصر كما يعشق الأبن أمه، ورأى فيها القدر والمصير وعاش عمره كله خادما لها، لا متسلطا عليها مدافعاً عنها، لا مستغلاً لخيرها.. وفى زمن كثر فيه الباحثون عن المكاسب الشخصية والمجد الزائف ظل هو النموذج النادر للسياسى النقى، الذى يمد يده بالخير دون أن ينتظر شكراً ويعمل للوطن دون أن يطلب جزاء.
إن الحديث عن مصطفى النحاس ليس مجرد استدعاء لشخصية تاريخية، بل هو استحضار لقيمة عليا، ومعنى عظيم ورسالة خالدة مفادها، أن الوطنية ليست شعاراً يرفع وإنما فعل صادق ينبع من قلب عاشق وروح نقية وسيرة عامرة بالعطاء.. إنسان قبل أن يكون سياسيا.. لم يكن مجرد زعيم سياسى يعتلى المنابر ويخطب فى الجماهير ـ بل كان رجلا يعيش بينهم ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم.. ولد فى بيئة متواضعة بمدينة سمنود بمحافظة الغربية عام 1879مـ وهو ما جعله يظل قريباً من الفلاحين والعمال طيلة حياته.. لم يغتر بالمناصب ولا السلطة، بل كان يردد دائماً: «الزعامة الحقيقية لا تشترى ولا تفرض، وإنما يمنحها الناس حين يرون فيك صدق وإخلاص لهم».. فكان عاشق للبسطاء، ومن القصص المعروفة عنه أنه حين كان رئيسا للوزراء كان يصر على أن يخرج كل صباح إلى أحياء القاهرة الشعبية مثل بولاق والدرب الأحمر، ليسأل الباعة والفقراء عن أحوالهم فى وقت كان فيه رؤساء الوزراء يعيشون فى قصور معزولة عن الناس.. ذات مرة أوقف موكبه ليسلم على بائع فاكهة عجوز كان يعرفه منذ شبابه، وجلس بجواره دقائق يتحدث معه فى مشهد أدهش الحاضرين.. هذا التواضع جعله محبوباً حتى من خصومه.. بيته فى جاردن سيتى كان مفتوحا للناس، بل كان بمثابة ملتقى للبسطاء قبل أن يكون صالونا سياسياً.. كان يستقبل فيه الفلاحين القادمين من الأقاليم يستمع لشكواهم، ويقضى حوائجهم ما استطاع.. وكان يقول دوماً: «إذا لم أكن بابًا مفتوحاً للناس فما جدوى وجودى فى السياسة؟».
عرف عن النحاس باشا أنه لم يكن يرد محتاجاً خائبا.. فتروى احدى القصص، أن شاب فقير جاءه يطلب وظيفة ليساعد أسرته، فكتب النحاس بنفسه خطاب توصية إلى إحدى المؤسسات، وحين حصل الشاب على العمل عاد ليشكره، فإذا بالنحاس يقول له: «لا تشكرنى بل أشكر الله الذى جعلك سبباً فى أن أشعر أن لى قيمة».. فكان تقيا، نقى نقاء السيرة والسريرة، بل كان رمزاً سياسياً لا مثيل له، لم يعرف عنه أنه استغل منصبه لجمع ثروة أو لإثراء أسرته، على عكس كثيرين فى زمنه.. عاش حياته بسيطا بل وتوفى عام 1965م، دون أن يترك قصورا أو ثروات طائلة، كانت ثروته الحقيقية هى حب الناس وذكراهم الطيبة.
ولعل من أروع المواقف الدالة على نزاهته ما حدث حين تولى رئاسة الوزراء عام 1928م.. فقد أهدى له أحد رجال الأعمال قطعة أرض كبيرة، لكنه رفضها بشدة وقال عبارته الشهيرة : «لا أبيع نفسى ولا موقعى، إن أردت أن تخدم بلدك فلتبنى عليها مصنعاً يكون سبباً فى تشغيل الشباب».
الحب فى حياة النحاس لم يكن مجرد قصة خاصة، بل كان جزءا من إنسانيته، فقد أرتبط بزوجته زينب هانم الوكيل برباط عاطفى وروحى نادر، كانت شريكته فى الكفاح تقف بجانبه فى الأزمات، وتسانده أمام محاولات القصر والنفوذ البريطانى لتهميشه.. وكان يبادلها حبا عظيماً، حتى أنهم صاروا معا رمزا للوحدة والوفاء، وهو ما جعل الناس ينظرون إليهما بإعجاب كبير.
وأهم ما يميز النحاس باشا أنه لم يكن يحمل يوماً ضغينة لخصومه سواء على المستوى الشخصى أو حتى السياسى.. فقد خاض معارك ضارية مع الملك فؤاد ثم فاروق ومع البريطانيين وحتى مع سياسيين مصريين كبار مثل أحمد باشا ماهر والنقراشى باشا، لكنه ظل يحترمهم، بعد وفاة أحمد باشا ماهر فى حادث إغتيال وقف النحاس يقول: «اختلفنا كثيراً لكننا جميعاً أبناء هذا الوطن، واليوم فقدت مصر رجلاً من رجالاتها».. أما عن مواقفه الوطنية والإنسانية الخالدة.. ففى عام 1936م، عندما أبرم معاهدة الجلاء خرجت الجماهير تهتف بأسمه فى الشوارع.. لكنه لم يعتبره انتصارا شخصياً بل كان يقول: «هذا انتصار لمصر، لكل فلاح وعامل وموظف ساهم فى هذه اللحظة».. وحين اندلعت مظاهرات الطلبة عام 1946م، ضد الاحتلال أرسل لهم النحاس تحية خاصة قائلاً: «أنتم أمل مصر، فلا تيأسوا»، بل ورفض أن تستخدم الشرطة القوة المفرطة ضدهم، لأنه كان يرى أن الطالب المتظاهر هو ابن مصر قبل أن يكون معارضاً للحكومة.. وعندما أقيل من رئاسة الوزراء أكثر من مرة، لم يفكر فى الانتقام أو إشعال الفتنة، بل كان يخرج ليهدئ أنصاره قائلا: «مصر فوق الجميع، ومن أجلها نتحمل المر».
لم يكن مصطفى النحاس باشا مجرد زعيم لحزب سياسى أو رئيس وزراء عابر فى تاريخ مصر، بل كان رمزاً للشرعية الدستورية وصوت معبر عن آمال الجماهير منذ عشرينيات القرن العشرين.. عندما قامت حركة يوليو 1952م، ظن كثيرون أن ضباطها سيسيرون على خط الوفد فى الدفاع عن الشعب والدستور، لكن سرعان ما تحولت العلاقة إلى صدام مكتوم، انتهى بواحدة من أقسى المآسى التى عرفها تاريخ الزعماء المصريين.. فقد تم فرض الإقامة الجبرية والعزلة القسرية.. ففى 16 يناير 1953م أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً بحل الأحزاب السياسية، وكانت الضربة الأكبر موجهة إلى حزب الوفد الذى شكل الأغلبية الشعبية الحقيقية فى البلاد.. وبذلك تم إقصاء مصطفى النحاس باشا من الحياة العامة، وفرضت عليه إقامة جبرية فى منزله ومنع من ممارسة أى نشاط سياسى.. لم يعد قادراً على التحرك بحرية أو حتى إستقبال أنصاره وكأن الهدف من ذلك هو محو وجوده من ذاكرة الناس.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تم حرمان النحاس باشا من المعاش وتجويع ممنهج.. فى خطوة غير مسبوقة قرر جمال عبد الناصر حرمان مصطفى النحاس باشا من معاشه التقاعدى كرئيس وزراء سابق.. كان هذا القرار صادما لأنه كان بعيد كل البعد عن الإنسانية، ليس فقط لأنه انتهاك لحقوق رجل خدم بلاده فى أعلى المناصب، بل لأنه جاء عقابا لزعيم قاد الأمة بإخلاص ونضال.. فقد ظل النحاس على مدى حياته السياسية يجعل قضية جلاء الإنجليز عن مصر الهدف الأول لنضاله.. ومع تقدمه فى العمر وتدهور صحته، وجد نفسه بلا دخل عاجزا عن شراء الدواء، يعيش فى عزلة تامة وكأن الهدف إذلاله حتى النهاية.. ولم يقتصر الأمر أيضا عن تجوعيه وإذلاله، بل قاموا بتشويه شخصياً بشكل متعمد وتشويه لتاريخ مصر أمام العالم.. لم يكتف نظام عبدالناصر بذلك، بل عمل على تشويه تاريخ النحاس باشا.. فقد صور فى خطابات رسمية وإعلامية باعتباره متواطئا مع الاحتلال البريطانى.. وهى تهمة تكشف زيفها الوقائع نفسها.. فكيف يتهم بالتواطؤ وهو الذى قاد المصريين فى مواجهة الإحتلال منذ معاهدة 1936 وما بعدها؟ وكيف يكون خائنا، وهو الذى أجبر بريطانيا بعد سنوات من النضال والمفاوضات على توقيع اتفاقية الجلاء والتى نصت على سحب القوات البريطانية من منطقة القناة لتكتمل عملية الانسحاب فى 13 يونيو 1956؟.. فقد كانت تلك التهمة مجرد ستار سياسى لإقصاء زعيم لم يقبل أن يكون تابعا أو خاضعا يجرده عشقه لهذا الوطن العظيم مصر والذى صحى بسنوات حياته من أجل الحفاظ على هذا الوطن.
أمام هذا الوضع القاسى الذى دأب نظام عبدالناصر فى تحريكه للقضاء على النحاس باشا، تحرك بعض المخلصين من رجال الوفد فمدوا له يد العون سراً، يقدمون له المال لمساعدته على شراء الدواء وتغطية نفقات المعيشة.. لكن أجهزة الأمن كانت تراقب الأمر عن كثب بتعليمات من عبدالناصر، وما إن علم عبد الناصر بذلك حتى أصدر أوامره بإعتقال كل من يساعده.. هكذا تحولت قيم الوفاء إلى جريمة، وأصبح العطاء ذنباً يعاقب عليه.. المفارقة أن النحاس باشا لم يكن يوما طالب سلطة ولا ساعيا إلى كرسى.. فقد عرف بزهده فى الحكم رافعا شعار الدستور أولا، مؤمناً بأن السلطة للشعب والدستور، وأن الحكم أمانة لا مغنم، لكنه رغم هذا الزهد لقى من القمع ما لم يلقه خصوم الحكم من الطامعين فى السلطة.
بعد ثورة يوليو 1952م، تم وضع النحاس تحت الإقامة الجبرية، وصودرت كل ممتلكاته القليلة، لكن الرجل لم يشك يوماً، بل كان يردد: «عملت ما استطعت والباقى على الله».. فقد عاش سنواته الأخيرة بعيدا عن الأضواء، لكنه ظل محبوباً فى قلوب المصريين.
مصطفى النحاس باشا كان مدرسة فى السياسة، لكنه قبل ذلك كان مدرسة فى الإنسانية.. زعيم لم يتعال على شعبه، لم يتكسب يوما من منصبه.. ولم يخن ضميره، بل ظل وفيا لمصر ولأهلها حتى آخر لحظة.. كان سياسيا عاشقا لمصر  متواضعاً إلى حد الذوبان فى البسطاء، نقى السريرة، يمد يده بالخير من أجل الناس دون أن يطلب مقابل.. لذلك يبقى أسمه محفورا فى وجدان المصريين، ليس فقط كزعيم سياسى بل كإنسان فريد من طراز لن يتكرر .
رحل النحاس باشا فى 23 أغسطس 1965م، ورفض عبد الناصر أن يشيع فى جنازة رسمية أو غير رسمية.. غير أن الجماهير خرجت بعشرات الآلاف تودع زعيمها الذى لم يساوم على مبادئه، ولم يبع قضيته، وظل حتى آخر يوم فى حياته رمزاً للنقاء السياسى والوفاء للوطن.. خرج ملايين الجماهير فى جنازة مهيبة، تبكى زعيماً لم يترك وراءه سوى تاريخ نقى وذكرى طيبة، ومواقف إنسانية صادقة.. الزعيم الذى لن يجود الزمان بمثله.