خلال الساعات القليلة الماضية، أثارت الإعلامية ريهام عياد جدلا واسعا بعد أن خصصت حلقة من برنامجها الشهير "القصة وما فيها" للحديث عن مذكرات الزعيم سعد باشا زغلول، مؤسس حزب الوفد وزعيم ثورة 1919. الحلقة التي جاءت تحت عنوان "أشهر مدمنين القمار"، تطرقت إلى جانب شخصي في حياة الزعيم، وتحدثت عياد عن زغلول لأنه كان منغمسا في لعب القمار خلال فترات معينة من حياته. المفارقة أن الحلقة تتزامن مع ذكرى وفاة سعد زغلول، الأمر الذي أضفى حساسية إضافية على الموضوع، خاصة أن الرجل يمثل قيمة رمزية ووطنية كبرى لدى المصريين عامة والوفديين على وجه الخصوص.
ولعل البداية المنصفة لأي تناول تكمن في الاعتراف بأن المذكرات بالفعل تضمنت إشارات صريحة من سعد باشا إلى هذه العادة، دون تبرير أو محاولة إخفاء، بل إن أهم ما يميز هذه المذكرات أنها تُعد من أصدق ما كُتب في التاريخ السياسي الحديث، إذ لم يكتفِ الزعيم بسرد إنجازاته أو بطولاته، وإنما تناول إخفاقاته ونقاط ضعفه بصراحة نادرة. وفي هذا الصدق تكمن عظمة الرجل، فهو لم يكتب ليجمل صورته أمام الأجيال، بل كتب ليترك للتاريخ شهادة حقيقية على نفسه وعلى عصره.
.. لكن هذه الحلقة تدفعنا لطرح سؤال جوهري: كيف يجب أن نتعامل مع مثل هذه التفاصيل حين نعرضها إعلاميا للجمهور؟
الإجابة هنا ليست إنكارا لما ورد في المذكرات، ولا محاولة للتقليل من شأن حرية الإعلام أو حق الناس في المعرفة. لكن ما يجب التأكيد عليه أن التناول الإعلامي للرموز الوطنية ينبغي أن يتسم بالاتزان والإنصاف. فالتاريخ لا يُختزل في لحظة ضعف أو عادة شخصية، إنما يقاس بمدى ما قدمه الشخص لوطنه من مواقف وإنجازات.
سعد باشا زغلول لم يُخلد اسمه لأنه كان أو لم يكن مدمنا على القمار، بل لأنه كان زعيم الأمة الذي التف حوله المصريون في ثورة 1919، وصاحب مقولة "الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة".. هو الرجل الذي تحدى الاحتلال البريطاني، ووقف شامخا في وجه السلطة الغاشمة، وقاد مسيرة وطنية غيرت وجه مصر الحديث.
ولعل ما يلفت الانتباه أن هذه ليست المرة الأولى التي يُستدعى فيها اسم سعد زغلول إلى ساحة الجدل والتأويل، فقد سبق أن وُجهت له اتهامات بالانتماء إلى المحافل الماسونية، في محاولة لإلصاق صفة التآمر أو العمالة به، غير أن هذه الادعاءات لم تُثبت، ولم تُغير من حقيقة أن سعد باشا ظل زعيما وطنيا حمل قضية الاستقلال فوق كتفيه.
والحقيقة أن إعادة تكرار مثل هذه الاتهامات – سواء في صورة إدمان القمار أو الماسونية – يكشف عن نمط متكرر من محاولات النيل من الرموز الوطنية، وهو ما يستوجب دائما قراءة متأنية للتاريخ بعيدا عن الانتقائية أو الإثارة السطحية.
من هنا، يصبح من الضروري أن ندعو الإعلاميين والباحثين إلى تقديم قراءة متكاملة للرموز الوطنية، لا انتقائية، فحين نسلط الضوء على الجانب الإنساني يجب أن نضعه في سياقه الطبيعي: أن القادة بشر لهم نقاط ضعف، لكنهم يصنعون التاريخ بما يقدمونه لأوطانهم، والأجدر أن نقدم للأجيال الجديدة صورة متوازنة، ترسخ في وعيهم أن الزعامة ليست مثالية مطلقة، وإنما إنسانية صادقة تتجلى في التضحية من أجل الوطن.
لذلك يجب أن تكون ذكرى رحيل سعد زغلول فرصة للاحتفاء بإنجازاته ودوره التاريخي، لا للتركيز فقط على جانب شخصي ربما استغله البعض في محاولات تشويه أو قراءة سطحية للتاريخ. وفي جميع الأحوال سيبقي حزب الوفد، الذي أسسه سعد باشا وكان عنوانا للنضال الوطني، وسيظل زعيم الأمة في وجدان المصريين رمزا خالدا للوطنية والصدق، وأن أي تفاصيل شخصية وردت في مذكراته لا يمكن أن تقلل من مكانته التاريخية، بل تضيف إلى إنسانيته وتزيد من قيمة الوثيقة التاريخية التي تركها.
وفي النهاية.. تبقى مذكرات سعد زغلول شاهدة على رجل كتب تاريخه بيده، دون تزييف أو تلميع، وتبقى مسؤوليتنا نحن – إعلاميين ومؤرخين ووطنيين – أن نقدم هذا التاريخ بإنصاف، ونحافظ على رمزية الزعماء الذين صنعوا الاستقلال والحرية. فالتاريخ لا يرحم من يحاول تشويهه، لكنه يرحم من يسرده بصدق واتزان، كما فعل سعد باشا في حياته، وكما يجب أن نفعل نحن عند استحضار سيرته.