الزاد
«نحن شعب يحب الموتى؛ ولا يرى مزايا الأحياء حتى يستقروا فى باطن الأرض!»
هكذا قال يوسف السباعى، وهى جملة تبدو كأنها كُتبت خصيصًا لوصف تجربة حياة عماد أبو صالح، ذاك الشاعر الذى ما زال حيًّا بيننا، لكنه يتجول فى شوارعنا كأنه قادم من عصور أخرى لا تخص هذا الزمن.
حين تقرأ قصائده، تشعر وكأنك تُمسك بيد شاعر قديم ضلّ الطريق، فاستراح فى مقهى، ثم قرر أن يُحدثنا قليلًا عن وجعه.
هو شاعر يكتب من عمق الجُرح، لا من سطح اللغة. من نزف العزلة، لا من فصاحة الجماعة.
ورغم أن شعره جواز سفره إلى عالم أكبر من حدود الجغرافيا، إلا أن اسمه لا يتردد إلا بين المهتمين، وكأن هذا الوطن لا يحب إلا الصخب، أما من يكتبون بالحبر والدمع، فهُم غرباء فى أرض ضاجة بالصوت وخلُو من المعنى.
لكن ما يُدهشك أكثر هو الإنسان فى عماد أبو صالح...
هو ليس مجرد شاعر متأمل يراقب من وراء زجاج، بل صحفى محترف من الطراز النادر، من أولئك الذين يجلسون على «الديسك المركزى» وكأنهم يكتبون فى غرفة عمليات لا فى صالة تحرير.
تُدهشك ثقافته الموسوعية، قدرته على التقاط المعنى من بين ركام العبارات، موهبته فى «القصّ» الصحفى والتقطيع والتحرير، وكأنه يقفز من جملة شعرية إلى عنوان صحفى بحرفية ساحر يعرف كيف يصوغ الدهشة.
عرفته عن قرب. جلسنا على مقاعد المقاهى، وتجادلنا كثيرًا فى السياسة، وفى الشعر، وفى الحبر الذى نكتبه.
اختلافنا لم يُفسد للود قضية، بل زادنى احترامًا لرجل يتمسك بقناعاته كمن يتمسك بخشبة نجاة وسط بحر هائج.
هو لا يجامل، لا يتلون، لا يقول ما يُرضى، بل ما يؤمن به، حتى لو دفع ثمنًا من راحته أو عزلته أو فرصه المهدرة.
يحب الصمت. ويعشق الانزواء. وهو من أولئك الذين حين يسيرون بجوارك، تشعر بهم يهمسون: «يا حيطة دارينى»...
ليس ضعفًا، بل عزوف عن هذا الضجيج الفارغ الذى يبتلع الموهوبين، ويرفع من لا يستحق.
ورغم أن شهرته الشعرية تجاوزت حدود مصر، وصداه وصل إلى عواصم أدبية تعرف الشعر وتُجِل الشعراء، إلا أنه فى وطنه محصور بين قلة تعرف القيمة وتُقدّر الموهبة، وكأننا فى وطن يحتاج دائمًا إلى شهادة وفاة ليمنح شهادة تقدير.
هذا المقال ليس تأبينيًا – أمدّ الله فى عمره – لكنه شهادة حب فى حياة رجل يستحق أن يسمعها وهو بيننا.
نعم، عماد أبو صالح يستحق أن يُكرَّم وهو حى، لا أن ننتظر لحظة الوداع لنقول ما كان يجب أن يُقال من زمن.
ليس لأن القصيدة توجعه، أو لأنه يكتب بدم القلب، بل لأنه إنسان نادر، وصاحب مبدأ، وفنان يعيش على الهامش بإرادته، لا لأنه لا يصلح للمركز، بل لأنه يأنف أن يكون وسط الزيف.
كنت أستمع إلى بعض المتخصصين يتحدثون عن تجربته الأدبية، ووجدتنى أقول فى نفسى بدهشة
«بيتكلموا على عماد أبو صالح؟!»
نعم، هو هذا الرجل الهادئ، الصامت، الذى يجلس إلى جوارك فى الجريدة، ولا تدرى أنك تجاور جبلًا من الشعر.
عذرًا يا عمدة – كما أحب أن أناديك – على جهلنا بقيمتك.
وعذرًا لأننا لم نُحسن الاحتفاء بك وأنت بيننا.
لكن ما زال فى الوقت متسع لأن نقول:
نحن نراك، ونُقدّرك، ونحترم تجربتك، ونعتبرك واحدًا من أولئك القلائل الذين تركوا بصمة دون ضجيج، وكتبوا فى وجدان هذا الوطن شعرًا ومواقف.
وفى النهاية مبروك هذا المجلد الذى يجمع اشعارك.