حكاية وطن
أدركت ثورة 23 يوليو أن تحرير الوطن العربى وتصفية الوجود الاستعمارى فيه قضية أمن قومى عربى، لذلك أنشأت الثورة منذ أن استقرت لها أمور الحكم مكتباً ملحقاً بالرئاسة للشئون العربية، تولى الإشراف عليه فى بداية الأمر زكريا محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة، وكان هذا المكتب يمثل قرون استشعار للثورة فى الوطن العربى، مهمته جمع المعلومات عن أحوال البلاد العربية، والأحزاب والجماعات السياسية الموجودة على الساحة، مع التركيز على المعارضة السياسية المنظمة والفردية على السواء، وكذلك معلومات وافية عن أحوال البلاد العربية الخاضعة للاستعمار وقيادات العمل الوطنى فيها، وما يحتاجون إليه من مساعدات، وكانت هذه المعلومات تقدم أسبوعياً فى تقرير إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وعلى أساسها يتم اتخاذ القرارات الخاصة بدعم الحركات التحررية أو حركات المعارضة فى الأنظمة العربية المتحالفة مع الاستعمار.
كانت قضية فلسطين، وبصفة خاصة نكبة 1948، أداة مهمة لتنبيه الشعب المصرى إلى أهمية تبنى مصر لسياسة عربية، كما نبهت المصريين إلى أهمية الالتحام مع الشعوب العربية الأخرى بعد عقود طويلة من الجهود التى بذلها الاستعمار لصرف أنظار المصريين عما يدور فى المشرق عربى، وجاءت نكبة فلسطين لتهز الضمير المصرى وتوقظه على حقيقة ارتباطه بمحيطة العربى من منطلق أهمية فلسطين كخط دفاع أمامى عن مصر، ومن ثمّ فهى قضية أمن قومى مصرى، بل إن الدفاع عن المشرق العربى ضرورى للحفاظ على أمن مصر.
أقامت ثورة يوليو بعد عامين من قيامها عام 1954 إذاعة صوت العرب لإثارة الشعوب العربية الواقعة بين براثن الاستعمار ودعوتها لطرح بتر الاستعمار عن رقابها، لتشجيع حركات التحرر الوطنى فى البلاد العربية وتمكين المناضلين من أبناء تلك البلاد من الحديث إلى جماهيرهم عبر صوت العرب. ولم تكتف الثورة بهذا التأييد المعنوى لحركات التحرر الوطنى العربية بل قدمت مصر رغم إمكاناتها المالية المحدودة دعمها المادى بالمال والسلاح وتدريب المناضلين على حرب العصابات وأعمال المقاومة.
وشملت تلك المساعدات حركات التحرر فى عدن وجنوب الجزيرة العربية وظفار. كما امتدت إلى المعارضين للنظام الملكى فى العراق بعد تورطه فى حلف بغداد. وتضمن برنامج مساعدة حركات التحرر الوطنى فى العالم العربى إعداد الكوادر لمرحلة ما بعد الاستقلال، فقدمت المنح الدراسية فى الجامعات المصرية لطلاب من مختلف البلاد العربية، ومن بينهم مرشحو حركات التحرر الوطنى، وحظى الفلسطينيون من قطاع غزة بنصيب كبير من المنح الدراسية بالجامعات المصرية.
وكان اهتمام ثورة يوليو بدعم الثورة الجزائرية يدل على بعد نظر استراتيجى فى الكفاح ضد الاستعمار، حتى انتصرت الثورة وحصلت الجزائر على استقلالها، وكانت القاهرة مقراً لأول حكومة جزائرية فى المنفى، واستمرت مصر فى دعم الجزائر بعد الاستقلال حتى تتمكن من بناء السلطة الوطنية فقدمت لها الخبراء والمعلومات والمعونات المادية، ولعل وقوف ثورة يوليو إلى جانب ثورة اليمن (سبتمبر 1952) يعد نموذجاً بارزاً فى الالتزام بدعم حركات التحرر العربية.
مساندة مصر وثورة يوليو للأشقاء العرب بهدف التحرير من الاستعمار كان لا يعنى الرغبة فى استبدال الهيمنة المصرية على البلاد العربية بالهيمنة الأجنبية، فلم يكن لدى الثورة مشروع توسعى بل كانت تدرك تماماً أن تحرير الوطن العربى وتصفية الوجود الاستعمارى فيه قضية أمن قومى عربى، لأن مصر وإن حصلت على استقلالها التام بعد عدوان 1956، لن تستطيع الحفاظ عليه طالما كان هناك وجود استعمارى فى الوطن العربى، فقد كانت ثورة يوليو ترى فى تحرير كل قطر عربى ضماناً لاستقلال مصر.
هذه الأيام تحتفل مصر والأمة العربية بالذكرى الـ73 لثورة يوليو 1952، تحية للثورة، وتحية لكل الشعوب العربية، وعاشت مصر زعيمة العالم العربى، والناطقة باسمه، ورافعة رايته ومحررة أراضيه ومستضيفة المستنجدين من الأشقاء.