رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

نزاعات الأبناء والآباء.. عار فى جبين الأسرة

بوابة الوفد الإلكترونية

 

«سارة»: بابا ادّعى مرضى.. وأضاع مستقبلى
«مالك»: والدى منع سفرى لاستكمال تعليمى
قانونيون: دعوى الحجر حق لأى شخص.. والحكم مضمون

داخل أروقة المحاكم عدد كبير من قضايا الحجر التى تعد واحدة من أكثر الملفات القانونية والاجتماعية حساسية وتعقيدًا فى مجتمعنا، وفى الأصل، وُجد الحجر لحماية الفئات الأضعف من الاستغلال أو الوقوع ضحية قرارات خاطئة، سواء كانوا مرضى نفسيين أو مسنين فقدوا القدرة على التمييز، إذ ينص القانون على إمكانية «الحجر» على الشخص الراشد إذا ثبت أنه غير قادر على إدارة شئونه بسبب مرض عقلى أو ضعف إدراك أو تدهور مفرط يضر بمصالحه ومصالح الآخرين.
 وإذا كان هناك آباء وأمهات تقدم بهم العمر أو ضعف بهم العقل، ويُسىء إليهم أبناؤهم بالحجر الجائر طمعًا فى أموالهم أو تخلصًا من مسئوليتهم، فإن الجانب الآخر من الحقيقة يحمل وجهًا أشد قسوة، فهناك آباء وأمهات أساءوا استخدام سلطتهم الطبيعية كأولياء أمور، وحوّلوا «الحجر» من وسيلة حماية إلى سلاح قمع، يُشهرونه فى وجه أبنائهم متى ما خالفوهم الرأى أو تحدّوا سلطتهم.
سارة.. حياة تحت الحصار
«سارة» فتاة شابة فى الرابعة والعشرين من عمرها، تنتمى لعائلة محافظة ذات نفوذ اجتماعى واسع، فمنذ طفولتها كانت متفوقة دراسيًا، تحلم بالسفر لإكمال دراساتها العليا فى الخارج، وتحلم بأن تصبح باحثة فى مجال العلوم الاجتماعية. وفى الوقت الذى كانت تتهيأ فيه للتخرج من الجامعة، تقدم أحد أبناء عمومتها لخطبتها، لكنها رفضت بهدوء، دون ضجيج أو إهانة، معلنة رغبتها فى التركيز على طموحها العلمى أولًا.
وكان الرفض كافيًا لإشعال فتيل الغضب فى قلب والدها، الذى اعتبر قرار ابنته تمردًا على سلطة العائلة، وبدأ بالتضييق عليها تدريجيًا: منعها من الخروج، صادَر هاتفها، قطع عنها الإنترنت، وأوقف قيدها فى الجامعة دون علمها، كما كانت سارة تعيش فى سجن غير مرئى، تحكمه سلطة الأب و«شرف العائلة».
بعد عدة أشهر من العزلة، صُدمت «سارة» بأن والدها قد رفع دعوى حجر ضدها، مدعيًا أنها تعانى من «اضطرابات عقلية» تجعلها غير قادرة على اتخاذ قرارات صائبة. لم يُعرض الأمر على طبيب محايد، بل قدم الأب تقارير طبية من أحد معارفه تفيد بـ«عدم اتزانها النفسى».
وما كان صادمًا أكثر، أن المحكمة حكمت بالحجر لصالح الأب، ومنحت له كامل الوصاية على شؤونها القانونية والمالية، ففقدت «سارة» قدرتها على فتح حساب بنكى أو إكمال دراستها أو حتى التقدم بأى طلب قانونى دون موافقة وليّها.
حاولت إحدى صديقاتها التواصل مع منظمات حقوقية لتقديم استئناف، لكن النفوذ والروتين القضائى أعاقا أى تحرك حقيقى، لتظل سارة قابعة فى بيتها، تعيش حياة أشبه بالعزل القسرى، تحمل حلمها المكسور فى قلبها دون حول ولا قوة.
«مالك».. موهبة مكسورة الجناح
«مالك» شاب يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، نشأ فى منزل تقليدى متشدد، وتربى على طاعة الوالد بلا نقاش. كان منذ صغره يعشق الموسيقى ويبدع فى العزف على العود والبيانو، وبرغم معارضة والده للفن عمومًا، استطاع «مالك» شق طريقه فى هذا المجال حتى حصل على منحة دراسية مرموقة فى إحدى الأكاديميات الفنية الأوروبية.
حين أخبر والده بأمر السفر، كانت الصدمة كبيرة، حيث رفض الأب تمامًا، واعتبر الأمر إهانة للعائلة، قائلًا إن الفن «لا يُطعم خبزًا»، وإن ابنه يجب أن يعمل فى التجارة أو الهندسة كما فعل أجداده.
«مالك»، الذى نضج فكريًا وماليًا، قرر أن يمضى فى طريقه دون الرجوع لموافقة والده. بدأ يستعد للسفر بمجهوده الشخصى، إلى أن فُوجئ بدعوى حجر رُفعت ضده بحجة «سلوكياته المتهورة وعدم قدرته على إدارة أمواله»، كما استند الأب إلى سابقة قضائية قديمة تؤكد أن «التهور المالى أو السلوكى» قد يُعد مبررًا للحجر، رغم أن «مالك» لم يُدن بأى تصرف جنائى أو قانونى.
واستعان الأب بأحد الأقارب ليشهد بأن مالك «ينفق المال على الحفلات والموسيقى»، وقدم تقارير نفسية غير موثقة، ولأن القانون لا يفرض فحصًا نفسيًا إلزاميًا من جهة مستقلة، صدر الحكم بالحجر فعليًا، ليُصبح «مالك» ممنوعًا من التصرف فى أمواله، والسفر، وحتى توقيع عقود فنية أو تعليمية دون موافقة والده.
نشر «مالك» قصته على منصات التواصل الاجتماعى، وتضامن معه عدد من المستشارين القانونيين، وبدأت منظمات حقوق الإنسان تتابع قضيته، لكنها لا تزال قيد المراجعة القانونية، فى ظل ضعف واضح فى آليات الحماية ضد «الحجر التعسفى».
انهيار منظومة القيم


قالت الخبيرة القانونية نهى الجندى إن المحاكم المصرية تشهد يوميًا تزايدًا فى عدد دعاوى الحَجر، التى تعكس فى كثير من الأحيان انهيارًا مؤسفًا فى منظومة القيم الأسرية، سواء من طرف الأبناء تجاه آبائهم أو العكس.
وأضافت «الجندى» أن «الحالات التى تمر علينا يوميًا داخل أروقة المحاكم تكشف عن قصص موجعة، بعضها يعكس قسوة الأبناء، والبعض الآخر يُظهر جحودًا من الآباء، والضحية فى النهاية هى الروابط الأسرية التى تُهدم أمام أعين الجميع».
وضربت «الجندى» مثلا بهذا النوع من القضايا التى وصفتها بـ«الصادمة»، حيث أقام ثلاثة أبناء دعوى حجر ضد والدتهم «خيرية»، وهى سيدة تجاوزت الخامسة والستين من عمرها، أفنت حياتها فى تربية أبنائها بعد انفصالها عن زوجها، واعتمدت طوال عمرها على دخلها الخاص وأموالها التى جمعتها من كدها.
وتابعت: «المشكلة بدأت حينما رفضت الأم تلبية مطالب أبنائها ببيع ممتلكاتها لصالحهم، رغم ما قدمته لهم طوال سنوات عمرها، فانهالوا عليها بالإهانات وسوء المعاملة، حتى وصل الأمر إلى رفع دعوى حَجر ضدها بحجة إصابتها بمرض ألزهايمر، رغم أنها كانت سليمة تمامًا».
وأكدت الجندى أنه «بعد عرض السيدة على الجهات الطبية المختصة، تبين أنها لا تعانى من أى أمراض تؤثر على إدراكها، وتم رفض الدعوى وكشف زيف ادعاءات الأبناء أمام المحكمة»، مضيفة: «أم أفنت عمرها فى شقاء مستمر، لكن مكافأتها كانت العقوق والتنكُّر من أقرب الناس إليها».
أب يطلب الحَجر حماية لأبنائه
وفى المقابل، أوضحت «الجندى» أن هناك دعاوى حَجر ترفع بحق الآباء لأسباب مبرّرة، مشيرة إلى حالة «عبدالرحمن»، وهو أب لجأ أبناؤه إلى المحكمة بعد أن فقد السيطرة على نفسه، وأصبح ينفق أمواله على نزواته الشخصية، ويطرد زوجته وأولاده من مسكن الزوجية.
وقالت «الجندى»: «فى هذه الحالة، لم يكن للأبناء خيار آخر سوى التدخل القانونى، ليس فقط لحماية أموال والدهم من الضياع، بل لحماية أنفسهم وأمهم من الظلم والطرد والتهميش، خاصة بعد أن أصبح الأب يتصرف بعشوائية وتهور لا يليق بمسؤولية ربّ الأسرة».
الحَجر.. سلاح ذو حدين
واختتمت نهى الجندى حديثها بالتأكيد على أن «الحَجر ليس إجراءً انتقاميًا، بل تدبير قانونى يجب أن يُستخدم بحذر وبعد تحقق الشروط الطبية والقانونية الدقيقة، لأن الأمر يمس كرامة الإنسان وإنسانيته»، مشددة على أن «التوسع فى دعاوى الحَجر دون سند حقيقى قد يتحول إلى شكل من أشكال الظلم والعقوق المقنَّن».
إجراء حمائى
والتقط أطراف الحديث أيمن محفوظ، الخبير القانونى، قائلا: بالرغم مما ترسّخ فى وجدان البعض من نظرة حزينة تجاه مفهوم «الحَجر» بفعل الدراما والقصص الشعبية، التى كثيرًا ما ربطته بظلم الأهل أو سلب الإرادة، فإن الحقيقة القانونية لهذا الإجراء مختلفة تمامًا، مشيرا إلى أنّ الحَجر فى القانون المصرى لا يُعد عقوبة، بل هو إجراء حمائى تنظمه الدولة بهدف حماية أموال من لا يستطيعون إدارة شؤونهم المالية، سواء لصالحهم أو لصالح الغير.
وأضاف «محفوظ» أنّه وفقًا للتشريعات المصرية، يُفرض الحَجر على الأشخاص فى حالة ثبوت عدم أهليتهم القانونية للتصرف، ويشمل ذلك الحالات مثل الجنون، العته، الزهايمر، أو السفه والتبذير، كما قد يُفرض لصالح الغير، مثل الحَجر على المدين المفلس ضمانًا لحقوق الدائنين.


وتابع: ويُرفع طلب الحَجر أمام المحكمة المختصة، بناءً على تقارير طبية معتمدة تؤكد عدم أهلية الشخص المعنى. وإذا أصدرت المحكمة حكمًا بالحَجر، يتم تعيين «قَيِّم» يتولى إدارة أموال المحجور عليه، ولا يجوز لهذا القيِّم التصرف فى أموال المحجور عليه إلا بعد موافقة النيابة العامة، وضمن الحدود التى تقتضيها نفقات المعيشة والرعاية.
واستكمل: ولا يكون الحَجر دائمًا، بل ينتهى بانتهاء سببه، مثل شفاء المحجور عليه من حالته المرضية، أو بلوغ السفيه سن الرشد القانونية، أو سداد المدين المفلس لجميع ديونه، وفى جميع الأحوال، لا يُرفع الحَجر تلقائيًا، بل بقرار قضائى يصدر بعد تقديم الأدلة والمستندات التى تثبت زوال السبب.
وأوضح الخبير القانونى أنّ المرسوم بقانون رقم 119 لسنة 1952 بشأن أحكام الولاية على المال، بالإضافة إلى قانون المرافعات والقانون المدنى، تعد المرجع الأساسى فى تنظيم مسائل الحَجر والولاية على المال. وتحدد هذه القوانين صلاحيات ومسؤوليات كل من الولى، والوصى، والقيم، والإجراءات اللازمة لحماية أموال القُصر والمَحجور عليهم، بما يكفل التوازن بين حماية الأموال وضمان عدم التعدى على الحقوق الشخصية، كما يظهر الحَجر كآلية قانونية تستهدف الرعاية لا الانتقاص، والحماية لا العقاب، ويظل القضاء المصرى هو الجهة الضامنة لتطبيقه بعدالة وإنصاف.
قرار حساس


من ناحية أخرى قالت الدكتورة ياسمين الجندى، استشارى العلاقات الأسرية، إن الحَجر على أحد الوالدين أو الأقارب ليس مجرد إجراء قانونى، بل قرار حساس يحمل أبعادًا نفسية واجتماعية عميقة، مشيرة إلى أن بعض الحالات تستدعى الحَجر فعلًا، خصوصًا عندما يكون هناك خطر على الشخص نفسه نتيجة التقدم فى العمر أو الإصابة بمرض يؤثر على قدرته فى اتخاذ القرار.
وأضافت «الجندى» أن الكثير من حالات الحَجر تتم بدافع الحماية، ولكن لا يمكن إنكار أن هناك حالات أخرى يُستخدم فيها الحَجر كأداة للسيطرة، وهو ما يحول الأمر من حماية إلى تجريد الإنسان من حقه فى إدارة حياته، موضحة أن الضربة الحقيقية ليست فى تجميد الأموال، بل فى كسر الثقة والعلاقة بين الأب أو الأم وأبنائهما.
وأشارت إلى أن أحد أصعب المواقف التى قد يتعرض لها الأب أو الأم هو أن يستيقظوا يومًا ليجدوا أنفسهم غير قادرين على التصرف فى أموالهم أو شؤونهم الخاصة بسبب قرار قانونى اتخذه أحد الأبناء، مؤكدة أن «الصعوبة النفسية هنا تكون فى أن تأتى الضربة من أقرب الناس، وليس من القانون نفسه».
وشددت «الجندى» على أهمية النية فى مثل هذه القرارات، قائلة: «إذا كانت النية خالصة لحماية الوالد أو الوالدة، وتمت استشارة أكثر من طبيب مختص وتقييم الحالة بشكل علمى ومحايد، فيمكن اعتبار الحَجر إجراء صائبًا. أما إن كان الهدف هو التحكم أو الاستيلاء على ما يملك، فذلك يُعد شكلًا من أشكال العقوق».
كما لفتت إلى وجود بدائل قبل اللجوء للمحاكم، مثل اللجوء للوصاية المشتركة أو تدخل كبار العائلة لحل النزاعات بطريقة ودية تحفظ كرامة الوالدين، قائلة: «الحَجر مش مجرد ورقة، ده قرار ممكن يهد علاقة سنين، ولازم نسأل نفسنا دايمًا: إحنا بنحجر علشان نحميه، ولا علشان نكسره؟».