مصر تعزز قدراتها لمواجهة السنة اللهب
الحرائق الغامضة تحت السيطرة
التكنولوجيا تحولت من سلاح الاختراق إلى السيطرة
خبراء: الأمن يُقاس بالسيطرة على البيانات والعقول وليس بالسلاح فى اليد
الأمن السيبرانى.. حائط الصد أمام الحروب الرقمية
بعد تكرار الحرائق الأخيرة، فى سنترال رمسيس، ترددت عدة أقاويل منها أن مسلسل الحرائق وافتعال الأزمات الداخلية هى من حروب الجيل الرابع، التى لا يظهر فيها العدو ممسكًا بسلاح، بل يعمل على تفتيت المجتمع من الداخل، من خلال خلق تحديات مفتعلة، تتبعها أزمات تؤدى إلى فوضى، فكما نعلم جميعًا، أصبحت التكنولوجيا الرقمية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وبات الاعتماد عليها كبيرًا، مما ينتج عنه خطورة جديدة وغير مرئية، هى «الحرب السيبرانية»، هذه الحرب لا تشبه الحروب التقليدية التى نعرفها، فهى تجرى فى عالم رقمى حيث يستطيع مختصو الاختراق أن يسببوا أضرارًا كبيرة للدول من خلال ضرب شبكات الحاسوب والأنظمة الإلكترونية، دون أن يطلقوا رصاصة واحدة.
خلال السطور المقبلة، تحدث عدد من الخبراء عن علاقة ما يحدث فى الأراضى المصرية من حروق وربطها بحروب الجيل الرابع، وكيفية تفاديها، بالإضافة إلى السيناريوهات المحتملة لوقوع تلك الحروب، فضلًا عن دور مصر فى طرق التصدى لتلك الحروب، وأهم العقبات التى تواجه تنفيذ طرق التصدى.
غير مرئية للعين المجردة
قال شحاتة السيد، خبير تكنولوجيا ومعلومات، والرئيس المؤسس لمجموعة OSH للتكنولوجيا وصناعات الذكاء الاصطناعى، إنه بخصوص ما تردد حول إذا كان حريق سنترال رمسيس، يشير إلى بداية الحرب السيبرانية ضد مصر، أشار إلى أنه سؤال مشروع، إلا أنه حتى هذه اللحظة لا توجد أى أدلة أو مؤشرات فنية، تؤكد أن حريق رمسيس أو غيره من الحوادث الأخيرة، ناتج عن هجمات سيبرانية موجهة، مشيرًا إلى أن إطلاق مثل هذه الفرضيات لا بد من أن يستند إلى تحقيقات دقيقة وتقارير أمنية وتقنية تصدر عن جهات رسمية مختصة، وإلا فإنه يظل فى إطار التكهنات أو التهويل الإعلامى.
وتابع «السيد»، أن ما حدث فى رمسيس وفق ما هو معلن حتى الآن، يدخل فى إطار الحوادث العادية التى قد تقع نتيجة عوامل فنية أو بشرية، وليس هناك ما يثبت أن وراءه عملًا سيبرانيًّا موجهًا ضد الدولة المصرية، أما عن احتمالية انطلاق الحرب السيبرانية ضد مصر، فمن المهم الإشارة إلى أن مصر، كغيرها من دول العالم، تواجه محاولات هجمات سيبرانية بشكل مستمر، وهى ظاهرة باتت جزءًا من المشهد الدولى العام، غير أن هذه الهجمات حتى اللحظة تظل فى نطاق الهجمات التقليدية التى تسعى غالبًا إلى الابتزاز المالى أو سرقة البيانات أو محاولة التسلل للحصول على معلومات استخباراتية، ولم تصل إلى مستوى الحرب السيبرانية الشاملة التى تهدف إلى شل الدولة أو إسقاط مؤسساتها أو إحداث أضرار كارثية واسعة النطاق، وبالتالى القول إن الحرب السيبرانية قد بدأت ضد مصر يعد طرحًا مبالغًا فيه ولا يستند إلى دلائل قاطعة.
وعن تكرار الحرائق واستهدافها البنية التحتية لمصر، أكد الخبير أنه لا توجد أى مؤشرات تقنية حتى الآن، تفيد بأن الحرائق المتكررة التى شهدتها بعض المواقع الحيوية خلال الفترات الماضية لها علاقة بهجمات سيبرانية أو عمليات تخريب رقمى، كما أن أغلب هذه الحرائق، بحسب ما يعلن من تحقيقات أولية، تعود لأسباب كهربائية أو إدارية أو أخطاء بشرية، وهى أمور واردة فى أى مجتمع ولا ترتبط بالضرورة بحرب سيبرانية، لافتًا إلى أنه فى المقابل، فإن مصر اتخذت خطوات مهمة للغاية لتعزيز أمنها السيبرانى، ونجحت فى تحقيق إنجازات ملموسة على المستوى الدولى، حيث احتلت المركز الثالث والعشرين عالميًا والأول عربيًا وإفريقيًا فى مؤشر الأمن السيبرانى الصادر عن الاتحاد الدولى للاتصالات، وهو إنجاز يعكس اهتمام الدولة ببناء قدراتها الدفاعية فى هذا المجال ووضع استراتيجيات وطنية متقدمة لحماية بنيتها التحتية الرقمية.
وعن التحديات التى تواجه مصر فى حروب الجيل الرابع، أكد «شحاتة»، أن هناك تحديات يفرضها عالم الأمن السيبرانى على جميع دول العالم من دون استثناء، حتى الدول الأكثر تقدمًا، فالتطور السريع فى أساليب الهجوم الرقمى، وظهور تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعى وتعلم الآلة، يجعلان من الصعب على أى دولة أن تعتبر نفسها بمأمن تام، إلا أن مصر استطاعت أن تتعامل مع هذه التحديات بقدر عالٍ من الجدية والاحتراف، واستثمرت فى إنشاء مؤسسات متخصصة، وتطوير التشريعات، وبناء بنية تحتية معلوماتية متينة، كما أن المؤشرات الدولية تشهد على أن مصر تسير فى الاتجاه الصحيح فى هذا المجال، وهو أمر يدعو للتفاؤل والثقة.
وأشار إلى أن مواجهة أى حرب سيبرانية تتطلب استثمارًا متواصلًا فى تحديث نظم الأمن السيبرانى، وتطوير قدرات الكوادر الوطنية، ورفع مستوى الوعى المجتمعى بأساليب الهجوم السيبرانى، فضلًا عن التعاون الإقليمى والدولى لتبادل الخبرات والمعلومات حول أحدث التهديدات، ولا شك في أن الحرب السيبرانية إن حدثت، قد تؤثر على الدولة المصرية اقتصاديًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا، غير أن مصر أظهرت قدرة جيدة على تطوير خطط الاستجابة السريعة، وإنشاء أنظمة إنذار مبكر، وهو ما يقلص احتمالية وقوع أضرار كارثية، والأهم أن مصر تدرك أن الأمن السيبرانى بات جزءًا لا يتجزأ من أمنها القومى، وتعمل على هذا الأساس من دون هوادة.
واختتم الخبير التكنولوجى، كلامه حول سيناريوهات الحرب السيبرانية المحتملة على مصر فى الفترة القادمة، قائلًا: «إن السيناريوهات النظرية متعددة ومتنوعة، وقد تشمل محاولات تعطيل الخدمات الحكومية أو استهداف المؤسسات الاقتصادية الكبرى بهجمات حجب الخدمة، أو محاولات اختراق شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، أو حتى شن حملات منظمة لنشر معلومات مضللة بغرض التأثير على استقرار المجتمع أو زعزعة الثقة فى مؤسسات الدولة، منوهًا إلى أنه من الضرورى التأكيد على أن وقوع مثل هذه السيناريوهات يظل احتمالًا غير حتمى، ويرتبط بعدة عوامل إقليمية ودولية، فضلًا عن جاهزية الدولة لصد مثل هذه الهجمات والتقليل من آثارها فى حال وقوعها، كما أن الخطر الأكبر يكمن فى كون الحرب السيبرانية غير مرئية للعين المجردة، لكنها قادرة على إحداث أضرار شديدة التأثير، إذ قد تؤدى إلى تعطيل خدمات أساسية تمس حياة المواطنين مثل الكهرباء أو المياه أو خدمات الإنترنت، أو إلى تسريب بيانات حساسة تؤثر على الأمن القومى، أو إلى تكبيد الدولة خسائر اقتصادية ضخمة نتيجة توقف عمليات الإنتاج أو تقديم الخدمات، كما أن من أخطر آثار الحرب السيبرانية احتمال زعزعة ثقة المواطنين فى مؤسسات الدولة، وهو خطر لا يقل شأنًا عن الأضرار المادية.
شبكات الاتصال اللاسلكى اللامركزى DeWi
وفى السياق نفسه، أكد محمد سعد، خبير تكنولوجى، أن أفضل حل، لتأمين البنية التحتية وعدم انقطاع خطوط الانترنت والشبكات مرة آخرى، هو وجود الانترنت اللامركزى، لأنه مهما تعرضت مصر لحرائق أو حروب سيبرانية، فلن تستطيع أن تؤثر على البنية التحتية لمصر، لافتًا إلى أن شبكات الاتصال اللاسلكى اللامركزى DeWi، تتيح للمستخدمين استضافة أجهزة لاسلكية والمساهمة فى بناء شبكة لامركزية خاصة بهم، كما أن شبكة الإنترنت، تتيح للمطورين بناء تطبيقات وخدمات لامركزية.
وتابع «سعد»، أن شبكات P2P، هى شبكات تواصل لا مركزية بين المستخدمين، ومن أهم مزايا الشبكات اللامركزية، هو زيادة الأمان والخصوصية، حيث لا توجد نقطة ضعف واحدة يمكن استهدافها، ما يجعلها أكثر أمانًا، بالإضافة إلى زيادة المرونة، حيث يمكن توسيعها بسهولة عن طريق إضافة المزيد من العقد، وأيضًا مقاومة الرقابة، حيث يصعب التحكم فيها أو حجبها، وهناك أيضًا إتاحة مشاركة الموارد، حيث يمكن للأفراد المساهمة بمواردها فى الشبكة، كما أنه يعمل على الابتكار، حيث إن وجودها يخلق بيئة أكثر انفتاحًا للابتكار وتطوير تقنيات جديدة.
أما عن تحديات الشبكات اللامركزية، فأوضح الخبير، أنه يوجد ما يسمى بالتعقيد التقنى، حيث إنها قد تكون أكثر تعقيدًا من الشبكات المركزية ولكنها أكثر أمانا، بالإضافة إلى تكاليف التشغيل، فقد تكون التكاليف الأولية أو تكاليف الصيانة أعلى ولكنها أكثر فعالية وحماية، فضلًا عن نقص الوعى، قد لا يكون المستخدمون على دراية بالشبكات اللامركزية أو كيفية استخدامها، وفى النهاية تعتبر الشبكات اللامركزية مستقبلًا واعدًا للاتصالات والإنترنت، حيث توفر مزايا عديدة مقارنة بالشبكات المركزية التقليدية، ومع استمرار التطور التكنولوجى وظهور تقنيات جديدة مثل Web3، من المتوقع أن تصبح الشبكات اللامركزية أكثر انتشارًا وأهمية.
مصر والدرع السيبراني
وتحدث الدكتور محمد محسن رمضان، مستشار الأمن السيبرانى ومكافحة الجرائم الإلكترونية، عن الحروب الرقمية قائلًا: «فى العقود السابقة، كانت الحروب تُقاس بعدد الدبابات، الطائرات، والجنود، أما اليوم، فإن القوة الحقيقية تُقاس بامتلاك «القدرة السيبرانية»، لم تعد الجيوش وحدها من تحسم المعارك، بل باتت الخوارزميات، وأجهزة الحواسيب، والبُنى التحتية الرقمية هى خط الدفاع والهجوم فى آن واحد، نحن نعيش زمن الحروب اللامتماثلة (Asymmetric Warfare) التى لا تعتمد على التوازن العسكرى، بل على التفوق التكنولوجى، وسرعة الاختراق، ودقة التأثير. هذا التحول الاستراتيجى يُحتم علينا إعادة التفكير فى مفهوم «الأمن القومي» بمكوناته الرقمية والتكنولوجية.
وأوضح «رمضان»، أن الحروب اللامتماثلة، لم تعد مجرد تكتيك تستخدمه الجماعات أو الدول الأضعف، بل أصبحت خيارًا استراتيجيًّا للدول الكبرى نفسها، خصوصًا حينما تستخدم الهجمات السيبرانية لتعطيل البُنى التحتية الحيوية (الكهرباء، الاتصالات، الصحة، المالية)، والذكاء الاصطناعى لصناعة الشائعات والتضليل الإعلامى، وبرامج التجسس لاستهداف قادة، نظم، وشركات حساسة، والهندسة الاجتماعية لاختراق البشر قبل الأنظمة.
وأكد الخبير، أنه فى قلب كل حرب رقمية، تقف التكنولوجيا كأداة مزدوجة: تُستخدم للدفاع والهجوم معًا، وتشمل الأسلحة الرقمية الحديثة: سواء كانت برمجيات الفدية (Ransomware): تقفل البيانات وتطلب فدية لفك التشفير، والهجمات على سلاسل التوريد (Supply Chain Attacks): مثلما حدث فى اختراق شركة SolarWinds، والهندسة الاجتماعية والتصيد الاحتيالى فهى وسيلة لاختراق الحسابات الحساسة، وأدوات الذكاء الاصطناعى التوليدى، مثل إنشاء مقاطع فيديو مزيفة باستخدام الـ Deepfake لتزييف الوقائع، لذا لم يعد الأمن يُقاس بالسلاح فى اليد، بل بالسيطرة على البيانات والأنظمة والعقول.
وأوضح الخبير أن المؤسسات الرائدة، باتت تدرك أن تجاهل الأمن السيبرانى لم يعد خيارًا، بل هو ضرورة وجودية، فالهجمات الإلكترونية لا تستهدف فقط البيانات، بل تستهدف الثقة، والسمعة، والاقتصاد، ومن أبرز ركائز الأمن السيبرانى هى حماية الشبكات والأجهزة والبرمجيات من الاختراقات، وتأمين نظم التشغيل والخوادم ومراكز البيانات، وبناء استراتيجيات الاستجابة للحوادث الإلكترونية، وتدريب العاملين على الوعى السيبرانى لمنع الاختراق من الداخل.
وتابع، كما نعلم جميعًا، تُعد مصر من الدول التى اتخذت خطوات حقيقية فى بناء بنية سيبرانية قوية، تدعم التحول الرقمى وتحمى الأمن القومى الرقمى، ومن أبرز الركائز المؤسسية، جهاز مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والمجلس الأعلى للأمن السيبرانى، ومراكز البيانات والحوسبة السحابية الوطنى، والمركز الوطنى للاستعداد لطوارئ الحاسبات والشبكات، ولا ننسى الذراع السيبرانية الفنية للدولة، المسئولة عن رصد التهديدات السيبرانية محليًا ودوليًا، وتنسيق الاستجابة للحوادث الأمنية، وإصدار تحذيرات عاجلة للمؤسسات الحيوية، والتعاون مع الفرق الدولية مثل (FIRST, OIC-CERT).
واختتم الخبير حديثه، عن أهمية اعتبار الأمن السيبرانى قضية أمن قومى، وذلك لأن تهديدًا سيبرانيًّا واحدًا قد يعطل شبكة كهرباء مدينة كاملة، أو يخترق بيانات ملايين المواطنين، أو يُسرب أسرارًا تخص البنوك أو جهات الأمن، أو يشوش على الانتخابات أو يسقط ثقة الناس فى الدولة، لذا نحن نعيش فى زمن لا تُخاض فيه المعارك بالأسلحة التقليدية فقط، بل بالحاسوب، والبيانات، والتطبيقات، والخوارزميات. ولهذا، فإن الأمن السيبرانى يجب أن يكون فى قلب استراتيجية الدولة، ومؤسساتها، ومواطنيها، ومصر، بخطواتها المتسارعة، تضع لبنات راسخة لدولة رقمية آمنة، قادرة على الصمود، وردع أى اعتداء رقمى، وقيادة مستقبلها بثقة فى عصر الذكاء السيبرانى.