مسار القهوة
من الأقوال المأثورة لـ(إلفرد دو موسّيه)، وهو شاعر وأديب فرنسى عاش فى القرن التاسع عشر الميلادي: «ليس للرجل سوى مجدٍ واحد حقيقى، هو التواضع».
والتواضع جزء أصيل من الفطرة الإنسانية السليمة، وقيمة أخلاقية راسخة فى الثقافة العربية، ويكون التواضع فى القول بالكلام الطيب، واللين، وفى الفعل بعدم التعالى على الآخرين، أو النظر إليهم باستهانة، وعدم التقليل من شأن ما يفعلونه. وقد استحوذت هذه الفضيلة على اهتمام المُربِّين، والفلاسفة، والمُفكِّرين؛ لأهميتها الكبرى فى حياة الأفراد والمجتمع.
ويُعرِّف التواضع بأنَّه القدرة على رؤية المُميِّزات الشخصية دون أيّ تحيُّزٍ أو غرور، مع الوعى بالعيوب، ونقاط الضعف، دون شعورٍ بتدنّى احترام الذات، أو انعدام الثقة بالنفس؛ فالتواضع هو الإيمان بأنَّ ممارسة الأعمال الجيِّدة لا يدعو إلى التفاخر بها، ولا مُعايرة الآخرين بعدم ممارستهم إيّاها.
والملاحظ فى البيئات المهنية والعلمية الحديثة الآن أنها تشهد هوساً كبيراً بالألقاب المهنية والعلمية (بشمهندس، إعلامى، أستاذ، دكتور، بروفيسور...) وتفاخراً مبالغاً فيه بالشهادات، فى الوقت الذى قد لا تعبر فيه هذه الشهادات عن المستوى الحقيقى لأصحابها؛ فالعِلم الذى لا يزيدُ صاحبه تواضعًا هو جهل مقنع!
وهنا لا أُقلل من قيمة الشهادات والإنجازات العلمية والمهنية الحقيقية، ولكن دون أن يصبح الناس عُبَّادا للألقاب، والبريستيج الخادع، والتعالى الثقافى، فما إن يقوم الباحث العلمى، على سبيل المثال، بالالتحاق بالسنة التمهيدية للماجستير أو حتى اتخاذ أول خطوات تسجيل رسالته، فإذا به يسبق اسمه على كل مواقع التواصل الاجتماعى بحرف (د) بل وفى بعض الأحيان يطلب من عائلته وزملائه بأن ينادوه بلقب دكتور، ليصبح مجال الحديث «الدكتور فلان قال.. والدكتور فلان راح.. والدكتور فلان جه..»، وقد بلغ الأمر فى أحد المواقف أن اشترط أحد الباحثين فى مقهى فاتورة يوضع فيها حرف الدال قبل اسمه! وتبقى المسألة حرية شخصية.
ويتطلب التواضع التحلى ببعض الصفات والحرص على اتباعها، وهي: الاستماع الجيد دون مقاطعة المتحدث، والحرص على التواصل الفعال معه سواء بالنظر أو النقاش الهادئ، والتقدير والاحترام لمن حولك مهما كان موقعه أو أهمية مكانته الاجتماعية بالنسبة لك، والاعتراف بالخطأ، فالشخص المتواضع يكون قادراً على الاعتراف بالخطأ بدلاً من إلقاء اللوم على الآخرين، وعدم الاستعراض بالتباهى بالإنجازات الشخصية أمامهم، وكذلك التواضع فى النجاح وتعزيز أهمية الاستمرار فى التعلم والتطور.
وفى النهاية، فإن أكثر مرحلة علميّة اعتقدتُ فيها أنى أعرفُ كثيراً، هى عندما كنتُ فى المرحلة الابتدائية! كنتُ أعتقدُ أنى نابغة! وكنتُ كلما انتقلتُ من مرحلة إلى أخرى اكتشفتُ مساحة ما أجهله! أما اليوم فأصبحت على يقين بأن العلم طريق لا ينتهى، وأن من اعتقد أنه يعلم كل شيء هو أجهل الناس؛ فالشهادة ورقة قد تُثبت أنك متعلم، ولكنها أبداً لا تثبتُ أنك تفهم، فاللهم أصْلِح لى قلبي!
أستاذ الإعلام المساعد بكلية الآداب - جامعة المنصورة