قنبلة موقوتة تهدد مستقبل أجيال
شبح التقزم يحاصر أطفال مصر
أم محمد: الفقر ينهش فى أجساد أبنائنا.. والتغذية السليمة بعيدة المنال
٢٧٪ من أطفال مصر يعانون من قصر القامة
التشخيص المبكر مفتاح الأمل لاستعادة الطول الطبيعى
على ضفاف النيل، ترصد آثار الأجداد قصص حضارة أذهلت العالم، وتأتى اليوم قصة أخرى، أقل ضجيجاً وأشد إيلاماً، وحكايات «أحفاد الفراعنة» فى مواجهة التقزم وهو الشبح بات يهدد أجيالاً وأصبح يمثل تقويضاً بطيئاً لإمكانات جيل كامل.
وفى قلب صعيد مصر، حيث تتركز الكثافة السكانية وتتراكم التحديات الاقتصادية، تتضح فصول تلك المأساة، فى أرقام رسمية وغير رسمية ترسم صورة مقلقة وتشير إلى أن نسبة كبيرة من أطفال مصر دون سن الخامسة يعانون من التقزم، وإنهم أطفال تكبر أجسادهم ببطء، وتتأثر عقولهم، ويتقلص حجم طموحاتهم.. ربما من أسباب تلك المعاناة سوء التغذية، والتى تعانى منها الكثير من أهالى قرى محافظات الصعيد، حيث انتشار الفقر وسوء البيئة المحيطة بنمو الطفل، وهو ما ترصده «الوفد» فى ذلك التحقيق.
قرية «البراغيت» بقنا
للوقوف على أبعاد المشكلة، سلطت «الوفد» الضوء على قرية «البراغيت» بمركز أبوتشت التابع لمحافظة قنا، حيث الشوارع الضيقة، المنازل البسيطة، والأطفال يركضون حفاة، فى كل مكان.. هذا المشهد، لا يبدو التقزم فيه ظاهرة واضحة للعين المجردة دائماً، لكنه يتجلى فى قامات أقصر من المعتاد، وفى وجوه شاحبة أحياناً، وفى حيوية أقل لدى بعض الصغار.

حكاية أم محمد
«أم محمد»، سيدة فى أواخر الثلاثينيات، تعيش فى منزل صغير مع أبنائها الأربعة، طفلها الأصغر، يوسف، يبلغ من العمر ثلاث سنوات، لكن قامته تبدو أقصر بكثير من أقرانه، روت معاناة نجلها مع «التقزم» وقالت: «الدكتور قال لى إن ابنى عنده تأخر فى النمو، وتضيف أم محمد بنبرة يائسة وهى تجلس على الأرضية الترابية، بنحاول ناكل كويس، بس اللحمة والفراخ غالية، وبنعتمد على العيش والجبنة والبطاطس أكتر حاجة، ومش كل يوم بنلاقى أكل متنوع».
وتابعت أم محمد: «المية عندنا مش دايماً نضيفة، وكتير العيال بيجيلهم إسهال أو برد، ولما بيتعبوا، بيخسوا أكتر»، شهادتها تلخص جزءاً كبيراً من المشكلة، حيث انتشار الفقر الغذائى، ظروف صحية وبيئية صعبة، ونقص فى الوعى الكافى بممارسات التغذية السليمة.
التقزم: قنبلة موقوتة
أكد أخصائيون فى التغذية العلاجية بمحافظة قنا، أن التقزم ليس مجرد مشكلة جمالية أو صحية فردية، التقزم بل هو مؤشر خطير على سوء تغذية مزمن ونقص فى العناصر الغذائية الحيوية، خاصة خلال الألف يوم الأولى من حياة الطفل، أى من بداية الحمل وحتى بلوغ الطفل سنتين.
وأوضح أن هذه الفترة هى الأساس لتكوين الدماغ والجهاز المناعى. الطفل المتقزم ليس فقط أقصر قامة، بل هو أكثر عرضة للإصابة بالأمراض، وأقل قدرة على التركيز والتحصيل الدراسى، وفى المستقبل ستكون إنتاجيته الاقتصادية أقل، إنه عبء على الفرد وعلى المجتمع ككل.
الفقر والجهل.. أسباب متشابكة
كشف الأخصائيون عن شبكة معقدة من الأسباب التى تغذى ظاهرة التقزم فى مصر، منها الفقر الغذائى، رغم توفر بعض الأطعمة الأساسية، إلا أن النقص فى البروتينات الحيوانية والفيتامينات والمعادن (خاصة الحديد والزنك) أمر شائع فى غذاء العديد من الأسر الفقيرة. الاعتماد المفرط على النشويات يمنح السعرات الحرارية دون القيمة الغذائية المطلوبة.
وقال الأخصائيون فى تصريحات لـ«الوفد» إن الرضاعة الطبيعية، حلم لا يتحقق بالكامل، رغم حملات التوعية، فلا تزال نسب الرضاعة الطبيعية الحصرية فى الأشهر الستة الأولى دون المستوى المأمول فى بعض المناطق. تعتقد بعض الأمهات أن الحليب الصناعى يغنى عن الطبيعى، أو يجدن صعوبة فى الموازنة بين العمل والرضاعة.
بجانب ذلك أشار أخصائيون التغذية إلى أن البيئة غير الصحية فى بعض المناطق (نقص الصرف الصحى، تلوث مياه الشرب، غياب النظافة الشخصية) تؤدى إلى تكرار إصابة الأطفال بالإسهال والالتهابات التنفسية، فهذه الأمراض تستهلك مخزون الجسم من الطاقة والمغذيات، وتمنع امتصاصها بشكل فعال، ما يزيد من سوء التغذية، بالإضافة إلى نقص الوعى، فكثير من الأمهات، خاصة فى المناطق الريفية، يفتقرن إلى المعرفة الكافية بأنواع الأطعمة المغذية، وطرق تحضيرها الصحية، وأهمية التنوع الغذائى، وكذلك ممارسات النظافة.
وأوضح أنه العوامل الاجتماعية والاقتصادية، مثل الزواج المبكر للفتيات يؤثر على صحة الأم والطفل، ومستوى تعليم الأم يلعب دوراً حاسماً فى صحة أطفالها، بالإضافة إلى حجم الأسرة الكبير الذى يضع ضغطاً على الموارد المتاحة.
العوامل الوراثية
وقالت الدكتورة نهلة عبدالوهاب، أستاذ البكتيريا والمناعة والتغذية بجامعة القاهرة، أن التقزم لا يقتصر على سبب واحد، بل يمكن أن ينشأ نتيجة لعدة عوامل، أبرزها العوامل الوراثية، حيث قد يكون للوراثة دور أساسى، حيث يمكن أن ينتقل الاستعداد للتقزم من الآباء إلى الأبناء، بالإضافة إلى سوء التغذية الذى أصبح أكثر شيوعاً فى ظل العادات الغذائية الحديثة، فالكثير من الأبناء يتجهون للوجبات السريعة الجاهزة، ويهملون تناول الخضراوات الكافية والعناصر الغذائية الأساسية.
العلاج والوقاية
وأضافت «عبدالوهاب» أن جوهر المشكلة يكمن فى نقص هرمون النمو، والذى يعتمد إفرازه بشكل كبير على ساعات النوم الصحى، وخاصة النوم الليلى الجيد، مشيرة إلى أن التقزم قابل للعلاج وبسهولة عند اكتشافه مبكراً، وشددت على أهمية تطبيق نهج شامل يرتكز على ما يلى، المتابعة الطبية المنتظمة، فالكشف المبكر للحالات يتيح التدخل العلاجى الفعال، وساعدت حملات صحية كبرى، مثل حملات «مائة مليون صحة»، فى تشخيص العديد من الحالات فى مراحلها الأولى.
نصحت الدكتورة نهلة بضرورة تناول الخضراوات، واللحوم بكميات معقولة، والأسماك، مع تنويع الوجبات لضمان حصول الطفل على كافة العناصر الغذائية اللازمة لنموه، بجانب النوم الصحى الكافى، ويعتبر مهماً جداً أن ينام الطفل جيداً، لأن هرمون النمو يُفرز بشكل أفضل خلال ساعات النوم الصحى، وخاصة النوم الليلى.
فحص وعلاج الوالدين: فى بعض الحالات، قد يكون لدى الأب أو الأم استعداد وراثى للتقزم. لذا، من المهم أن يخضعا للفحص والعلاج إذا لزم الأمر، لتقليل فرص انتقال هذه المشكلة إلى الأجيال القادمة، ولا غنى عن ممارسة النشاط الرياضى بانتظام لدعم الصحة العامة والنمو البدنى.
واختتمت الدكتورة نهلة عبدالوهاب حديثها بالتأكيد على أن تضافر جهود الأسرة مع المتابعة الطبية، والحرص على نمط حياة صحى، يمثل حجر الزاوية فى التعامل مع مشكلة التقزم وضمان نمو سليم لأطفالنا.
التشخيص المبكر: مفتاح العلاج الفعال
شددت الدكتورة نهلة على أن المتابعة الطبية المبكرة هى العامل الحاسم فى تحديد ما إذا كانت الحالة تحتاج إلى علاج هرمونى أم لا، موضحة آلية التشخيص، حيث يُقاس الطول والوزن، ومن ثم تُحدد الحالة. وكلما كان التشخيص مبكراً، كان العلاج أفضل وأكثر فعالية، وتنصح الآباء والأمهات بالانتباه للمؤشرات المبكرة للتقزم، مثل ملاحظة أن الطفل أقصر من زملائه فى الفصل أو فى مرحلة عمرية مبكرة. فى هذه الحالات، يجب عدم التردد فى استشارة طبيب المدرسة أو التوجه مباشرة إلى طبيب الأطفال لتقييم الحالة واتخاذ الإجراءات اللازمة.
كشف الدكتور السيد حماد، أستاذ التغذية وعلوم الأغذية بالمعهد القومى للتغذية، أن التقزم وقصر القامة المنتشر فى مصر يعد مشكلة صحية خطيرة مرتبطة بشكل أساسى بسوء التغذية المزمن، وليست عوامل وراثية فى غالبية الحالات، مشيراً إلى أن هذه المشكلة تؤثر على عدد كبير من الأطفال، وتعرف بأنها «طول الطفل أقل من المعدل الطبيعى بالنسبة لعمره، مما يمنعه من الوصول إلى الطول المتوقع لأقرانه».
وأضاف «حماد»، أن السبب الرئيسى لقصر القامة فى مصر هو نقص العناصر الغذائية الأساسية، على رأسها، البروتين الجيد، فيتامين أ، الكالسيوم وفيتامين د، الزنك، الدهون الصحية (مثل أوميجا 3).
وأوضح أن تأثير التقزم لا يقتصر على الطول فقط، بل يمتد ليشمل جوانب أخرى من حياة الطفل، مثل، التنمر وعدم الثقة بالنفس، تراجع الأداء الذهنى والرياضى، وضعف المناعة الذى يجعل الأطفال أكثر عرضة للإصابة بالأمراض والعدوى.
وأوصى بممارسة الرياضات التى تساعد على الاستطالة، مثل السباحة، كرة الطائرة، والعقلاء، التى تساعد على استطالة الجسم وتجنب الرياضات التى تضغط على العمود الفقرى أو النمو بشكل سلبى.
ولفت الدكتور حماد إلى أهمية التدخل المبكر، مشيراً إلى أنه «كلما بدأنا مبكراً مع الطفل، على الأقل عند ثلاث أو أربع سنوات بمجرد اكتشاف أن طوله أقل من الطبيعى، كلما تمكنا من مساعدته على الوصول إلى النمو الطبيعى واللحاق بالقدر المطلوب بالنسبة لعمره».
وأكد أن معدلات انتشار التقزم وقصر القامة بين الأطفال دون سن الخامسة فى مصر شهدت انخفاضاً ملحوظاً، وذلك وفقاً لنتائج المسح الصحى للأسرة المصرية لعام 2020، والتى صدرت فى عام 2021. ويأتى هذا التراجع ليؤكد الدور المحورى لزيادة الوعى الغذائى والتوعية الصحية فى تحسين صحة الأطفال.
انخفاض بعد ارتفاع مقلق
وأردف انه فى وقت سابق، كانت نسبة قصر القامة قد وصلت إلى أكثر من 27% من الأطفال تحت سن الخامسة، لكن بفضل الجهود المبذولة فى التوعية الغذائية، أظهر المسح الأخير انخفاضاً فى هذه المعدلات، وإن كانت النسبة الحالية لا تزال «عالية»، ويعد هذا الانخفاض «ملحوظاً» مقارنة بآخر إحصاء تم فى عام 2014، مما يبشر بتحسن مستمر فى صحة الأطفال خلال المسوح المستقبلية، وعلى الرغم من أن السبب الرئيسى للتقزم يظل نقص العناصر الغذائية، إلا أن للعوامل البيئية دوراً، وإن كان ثانوياً، أن بعض الملوثات الناتجة عن أساليب الزراعة غير المطابقة للمواصفات، والاعتماد على الأسمدة والمخصبات الكيماوية، يمكن أن تؤثر سلباً على صحة الأطفال ونموهم.
صعيد مصر يتصدر معدلات التقزم
واستطرد السيد حماد حديثه أن تشير الإحصائيات إلى أن محافظات الصعيد تعانى من معدلات انتشار أعلى للتقزم، وتعد محافظة سوهاج من بين الأكثر تضرراً، ويبلغ متوسط طول الطفل الطبيعى عند الولادة حوالى 50 سنتيمتراً، ويصل إلى حوالى 75 سنتيمتراً فى نهاية السنة الأولى. ولضمان النمو السليم لطفلها، يجب على الأم متابعة طول ووزن طفلها بشكل دورى فى المراكز الصحية خلال مواعيد التطعيمات. ففى هذه المراكز، يتم قياس الطفل ومقارنة بياناته بمنحنيات النمو الخاصة به، مما يساعد الأم على الاطمئنان على صحة طفلها.
فى ما يتعلق بالأدوية أو هرمون النمو أو أى علاجات دوائية، أكد «حماد»، أنه يجب دائماً استشارة طبيب متخصص فقط. لا يمكن تناول هذه المواضيع بشكل عام أو الإشارة إليها فى المقالات الصحفية، حيث أن الطبيب هو الوحيد المخول بتحديد الحاجة للعلاج وجرعاته بناءً على حالة الطفل الفردية.
جهود حكومية وشعبية: بصيص أمل فى الأفق
رغم حجم التحدى، فإن الدولة المصرية، بالتعاون مع المنظمات الدولية والمحلية، لا تقف مكتوفة الأيدى. تتوالى المبادرات والبرامج فى محاولة لمكافحة هذا العدو الخفى:
«100 مليون صحة»: محطة فارقة
كانت مبادرة «100 مليون صحة» للكشف عن أمراض سوء التغذية بين طلاب المدارس نقطة تحول. يقول الأستاذ خالد فؤاد، مدير إحدى المدارس الابتدائية بقنا: «الكشف المبكر ساعدنا كتير. اكتشفنا حالات تقزم وأنيميا مكنش الأهل يعرفوا بيها. بيتم توجيههم للوحدة الصحية وبياخدوا أدوية ومكملات. ده فرق كبير».
«حياة كريمة»: تغيير جذرى للبنية التحتية
تعتبر مبادرة «حياة كريمة» الأمل الأكبر. من خلال تحسين البنية التحتية فى القرى الأكثر احتياجاً (مياه شرب نظيفة، صرف صحى، وحدات صحية مطورة)، يتم استئصال بعض الأسباب الجذرية للأمراض وسوء التغذية. يقول أحد سكان قرية «البحرية» بعد تركيب وصلة مياه نظيفة لمنزله: «العيال كانوا بيتعبوا كتير من المية، دلوقتى الوضع أحسن بكتير.»
برامج «الألف يوم»
تركز برامج التوعية الصحية فى الوحدات الصحية على أهمية الرضاعة الطبيعية والتغذية المتنوعة للأمهات والأطفال، خاصة خلال فترة «الألف يوم الذهبية». الممرضة سناء على فى الوحدة الصحية بقنا تشير إلى زيادة الإقبال على جلسات التوعية: «بنحاول نبسط المعلومة للأمهات ونوريهم أزاى بأقل الإمكانيات يقدروا يغذوا ولادهم صح».
قامات أطول وعقول أنضج
التقزم فى مصر ليس مجرد مشكلة صحية، بل هو معركة تنموية واجتماعية تضعف من قدرة الأمة على تحقيق طموحاتها. أن «أحفاد الفراعنة» يستحقون الفرصة كاملة للنمو والتطور، ليتمكنوا من حمل راية التقدم والازدهار كما فعل أسلافهم.
الخطر يكمن فى أن الأجيال القادمة، أن لم يتم التصدى للتقزم بجدية أكبر، قد تفقد جزءاً من قدرتها على الإبداع والابتكار والإنتاج. المطلوب ليس مجرد علاج فردى، بل تحول مجتمعى شامل يستهدف تحسين التغذية، وتعزيز الوعى، وتطوير البنية التحتية، وتمكين الأسر من توفير بيئة صحية داعمة للنمو.
إن مستقبل مصر، بقامات أبنائها وعقولهم النيرة، يعتمد على مدى سرعة وفعالية استجابتنا لهذا التحدى الصامت. فلكى تبقى قامات «أحفاد الفراعنة» شامخة كأهرامات أجدادهم، لا بد أن تنتصر معركة التقزم، لتظل مصر منارة للعلم والتقدم على مر العصور.
وفى وقت سابق، كشف الدكتور محمد الطيب، نائب وزير الصحة والسكان، عن استعداد مصر لإطلاق البرنامج القومى للوقاية من التقزم، وأضاف «الطيب»، أن البرنامج يهدف إلى تقليص نسبة التقزم بنسبة 24% خلال 3 سنوات، من خلال تعزيز القدرات المؤسسية، وتوسيع خدمات التغذية، والتثقيف الصحى، والحماية الاجتماعية.