خارج السطر
يرد اسم سعد زغلول، فتتبادر إلى الأذهان صورة الأفندية والطلبة والمشايخ، وهم يسيرون هادرين فى شوارع المحروسة بالاستقلال التام، وتتوالى مشاهد ثورة 1919، انتفاضة المصريين الأعظم فى تاريخهم الحديث، ويتذكر من يملك المعرفة أول حكومة حملت اسم حكومة الشعب، تحقيقاً لمبدأ سيادة الأمة.
حاز سعد زغلول شعبية استثنائية، ومحبة غامرة من الناس. وأطلق المصريون اسمه على أبنائهم طوال العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، علقوا صوره فى بيوتهم، وألفوا عنه الأغانى الشعبية والمواويل، تتبعوا سيرته واختاروه مثالاً وقدوة، واعتبره مبدع مصر الكبير نجيب محفوظ، أعظم شخصية مصرية فى القرن العشرين.
رغم ذلك، إن قراءة منجزات الرجل ظلت كأمور كثيرة فى بلادنا ناقصة، وتركز الاهتمام الأكبر على دوره السياسى، وإسهاماته الوطنية. وربما لم يلتفت كثير من الباحثين لما فعله سعد زغلول فى قطاع التعليم إيماناً منه بأنه عتبة الخروج من ربقة التخلف، وبداية التحرر الحقيقى.
وهذا ما لاحظه المستشرق الأمريكى جورج دونهام بيرس فى رسالة ماجستير ناقشها فى جامعة ويسكونسن الأمريكية عام 1949، بعنوان «سعد زغلول والقومية العربية»، التى نشرتها مؤخراً دار إشراقة بترجمة وتعليق باهر سليمان، لتكشف إشارات مهمة فى منجزات سعد زغلول وعلى رأسها التعليم الذى أحدث فيه ثورة غير مسبوقة.
رصد بيرس حال التعليم فى مصر قبل وبعد مجىء سعد زغلول وزيراً للمعارف (التعليم) سنة 1906. ففى عام 1905 كانت ميزانية التعليم 235 ألف جنيه، وهى تعادل 1.7 فى المائة من ميزانية مصر وقتها، وبلغ عدد طلاب المدارس نحو 182 ألفاً من أصل سكان يبلغ عددهم 12 مليوناً، وكان عدد من يستكمل تعليمه بعد الشهادة الابتدائية يقدر بنحو 18 ألفاً وسبعمائة طالب. وفى عام 1906 بلغ عدد طلاب البعثات إلى أوروبا ثلاثة طلاب فقط.
وكان سعد زغلول شجاعاً ومخلصاً ومصمماً على الإصلاح والسيطرة على وزارته وعلى المستشار البريطانى فيها دنلوب، وهو ما لم يحاول وزير مصرى وقتها فعله.
بدأ سعد مشروعه لتطوير التعليم بمخطط وضعه مع جامعة الأزهر لإنشاء مدرسة للقضاء الشرعى تتم فيها إضافة مناهج الرياضيات والعلوم والأدب إلى الدراسات القانونية التقليدية، وهو ما سبق أن دعا إليه الإمام محمد عبده.
وخطط سعد لإنشاء مدرسة ثانوية فى كل عاصمة إقليمية ومدرسة ابتدائية فى كل مدينة، كما أنشأ مدارس تجارية وزراعية فى كل مكان، وبدأ مشروعاً فعالاً لتعليم الإناث، وأوفد 22 طالباً للتعلم فى أوروبا. وقوبل عمله بتشكيك وعراقيل وضع بعضها أمامه بعض المحسوبين على التيار الوطنى، لكنه ترك الوزارة عام 1910 وقد حقق نتائج لافتة. فعدد الطلاب بالقطر المصرى ارتفع إلى 273 ألفاً بزيادة بلغت 50%، وزادت ميزانية التعليم إلى 505 آلاف جنيه بزيادة قدرها 114% لترتفع نسبة التعليم فى الموازنة إلى 3.4%.
ولاحظ جورج دونهام بيرس أن الفترة القصيرة التى قضاها سعد فى وزارة المعارف (التعليم) نتج عنها تطوير كبير للمدارس، وانخفاض واضح فى معدل الأمية بين الناس، واتجاه كثير من الأسر بتعليم الإناث. وكل ذلك أسهم فى إنشاء الجامعة المصرية سنة 1910.
وهذه الإشارات وهذا الملمح المهمش فى مشروع سعد زغلول لتحديث مصر، يؤكد لنا دون شك أن قضية التعليم هى أولى القضايا، وأن تطويره وتعظيمه وتحويله إلى أداة إصلاح وتنمية وتقدم هو أهم الإنجازات التى يمكن لحاكم أن يفتخر بها.
والله أعلم