رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

أحيانا لا تحتاج الحياة إلى مواقف كبرى كي توقظ فينا ما خمد من المشاعر، ولا إلى كوارث عظيمة تهز أعماقنا، فربما مشهد بسيط، كلب صغير وطفل يلهو، ونهاية لم تكن في الحسبان، يكشف لنا ما غاب عن بصيرتنا من معان ودروس.

ما حدث تحت بيتي لم يكن مجرد حادث عابر، بل لحظة فاصلة أعادت ترتيب أفكاري عن الرحمة والوفاء والغدر، وأيقظت في إحساسا بالإنسانية كنت أظنه تآكل تحت زحمة الأيام. 

كانت هناك كلبة من سلالة الشوارع، لا تحمل ملامح تثير الانتباه ولا اسما فخما، لكنها كانت أما، بكل ما في الأمومة من حب ووجع وصبر. 

أنجبت جروا صغيرا منذ شهور، وصار ذلك الجرو صديقا لابني "أنس"، أصغر أبنائي، لم يتجاوز الثالثة والنصف من عمره، كان مشهد الصداقة بينهما عجيبا، لا تفسير له سوى الفطرة التي لا تعرف الكذب ولا المصلحة، طفل ولد على البراءة، ومخلوق لا يعرف من الدنيا سوى اللعب والوفاء.

كان الجرو الصغير كلما رآني يهز ذيله بتحية أقرب إلى الامتنان منها إلى الفرح، رغم أنني لم أقدم له سوى ابتسامة عابرة، لكنه كان يعرفني جيدا، يعرف أنني "أبو أنس"، وهذا وحده كان كافيا ليحبه ويطمئن إلي. 

مضت الشهور، وكبر الجرو في هدوء، وكبر معه حب ابني له، وكان كل شيء في مكانه الصحيح، بسيطا وجميلا كما يجب أن تكون الحياة حين تخلو من الزيف.

ثم جاء صباح كئيب، كسر فيه شيء داخلي، حين سمعت الخبر الذي نزل علي كالصاعقة: الجرو مات، لم أصدق في البداية، ورفضت أن أقتنع بأن مجموعة من الكلاب الضالة هاجمته حتى فارق الحياة. 

لم أستوعب كيف يمكن أن يغدر الكلب بأخيه الكلب، وكيف يمكن أن يتحول الوفاء، الذي لطالما تغنينا به، إلى وحشية لا سبب لها، لجأت إلى كاميرات المراقبة، وتمنيت ألا أفعل. 

المشهد الذي رأيته كان صادما، موجعا، خاليا من أي منطق، لم يكن الجرو معتديا ولا خطرا على أحد، ومع ذلك، تمزق على أيدي أبناء فصيلته، بلا جوع ولا خوف ولا دفاع عن النفس، كان الغدر خالصا، والوحشية كاملة، والرحمة غائبة تماما.

في فجر اليوم التالي، دفعتني الصدمة إلى النزول للشارع، لم أكن أعرف ما الذي أبحث عنه، عن سبب؟ عن عزاء؟ عن مبرر لهذا القسوة؟ لكنني وجدت ما هو أبلغ من كل الإجابات: وجدت الأم، تلك الكلبة التي فقدت صغيرها، تجلس في المكان نفسه الذي مات فيه، لا تأكل، لا تتحرك، لا تنبح، فقط تئن بصوت خافت يشق القلب، كانت ملامحها حزينة كأنها تبكي، حزنا لا يشبه حزن الحيوانات، بل يشبه وجع الأمهات.

وقفت أمامها طويلا، عاجزا عن الكلام، وشعرت أنني صغير جدا أمام هذا المشهد العظيم في بساطته، كل ما قرأته في كتب الفلسفة عن الرحمة والوفاء، بدا تافها أمام نظرة تلك الأم. 

كانت أوفى من الكلاب التي غدرت، بل أوفى من بعض البشر الذين باعوا أبناءهم أو تخلوا عنهم باسم الظروف، الكلب الصغير الذي مات كان أطهر من أناس كثيرين نعرفهم، والغدر، كما اكتشفت، لا يعرف نوعا ولا فصيلة، بل يعرف فقط قلبا مريضا.

تلك الحكاية الصغيرة لم تكن بالنسبة لي مجرد قصة عن كلب وجرو، بل كانت درسا عميقا عن معنى الحياة نفسها، الحياة التي صارت قاسية في هذا الزمن، لا تفرق بين إنسان وحيوان في الألم، ولا بين قلب وأخر في الرحمة. 

اليوم، أيقنت أن دروس الحياة الكبرى لا تتعلم في الكتب ولا في الندوات، بل في الشوارع، على الأرصفة، في عيون المخلوقات البسيطة، وفي نحيب أم فقدت صغيرها.

ومنذ تلك اللحظة، أدركت أن الإنسان ليس متفوقا على الحيوان بما يملك من عقل، بل بما يملك من قلب، وإذا غاب القلب، فلا فرق بيننا وبينهم، بل قد يسبقنا الحيوان رحمة ووفاء. 

إننا في وطن عظيم، تعلمنا أن الرحمة من شيم الأقوياء، وأن العدل لا يقاس بالقوة بل بالإنسانية، فإذا كانت كلبة ضالة قادرة على الوفاء إلى هذا الحد، فكيف بنا نحن، أبناء هذا الوطن، الذين نحمل بين ضلوعنا تاريخا من النخوة والمروءة، أن نفقد إحساسنا بالرحمة؟

ما حدث لم يكن مجرد موت جرو صغير، بل سقوط وهم بشري قديم كنا نختبئ خلفه، سقطت قشرة الغرور التي تغلفنا، وتعرت الحقيقة البسيطة: الأم هي الأم، حتى لو كانت كلبة، والوفاء لا يقاس بالجنس ولا بالنوع، بل بنقاء القلب، أما الغدر، فهو عاهة تصيب الأرواح الخاوية، سواء سكنت جسد إنسان أو جسد حيوان.

كتبت هذه الكلمات لا ككاتب ولا كمثقف، بل كإنسان رأى مشهدا بسيطا أيقظه من غفلته، وجعله يتذكر أن هذا الوطن لا يقوم إلا بالرحمة، ولا ينهض إلا بالإنسانية، وأن قسوته علينا لا يجب أن تنسينا قلبنا الطيب الذي كان يوما عنوانا لنا. 

رحم الله جروي الصغير، وسامح من كان سببا في موته، وسلام على أمه التي علمتني درسا لن أنساه ما حييت، لقد فهمت منها أن الرحمة لا تحتاج إلى لسان ناطق، وأن الوفاء لا يعلم، بل يولد في القلب.

ولعلنا نحن، أبناء هذا الوطن الكبير، في حاجة إلى أن ننظر حولنا قليلا، لنعرف أن قوتنا الحقيقية ليست فيما نبنيه من جدران، بل فيما نحفظه من قيم، وأن أمتنا التي عرفت الرحمة منذ فجر التاريخ، لن تهزم ما دام فيها من يبكي على جرو مات لأنه رأى فيه إنسانا لم يجده بين البشر.