في مثل هذا اليوم، الأول من يونيو عام 1948، سجل التاريخ المصري لحظة فارقة جسدت أسمى معاني الوحدة الوطنية والإرادة الصلبة للشعب والدولة والدين في مواجهة التحديات الكبرى.
إعلان الأزهر الشريف "الجهاد المقدس" لدعم الجيش المصري في فلسطين لم يكن مجرد فتوى دينية، بل كان موقفا وطنيا جامعا، يعكس الروح المصرية الأصيلة التي تتكاتف أمام أي تهديد للوطن أو للأمة.
حين أصدر شيخ الأزهر محمد مأمون الشناوي الفتوى، لم يكن يعلن عن مجرد نص ديني بل كان يرسل رسالة حقيقية مفادها أن مصر كلها – الدولة والشعب والمؤسسة الدينية – صف واحد، وعزيمة واحدة في نصرة الحق ودعم الأشقاء الفلسطينيين في لحظة حساسة من تاريخ الأمة العربية.
أعتبر هذا الحدث ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل درسا عمليا في المعنى الحقيقي للوطنية والمسؤولية، لقد تعلمت منذ نعومة أظافري في مدرسة الوفد كيف يكون حب الوطن جزءا من كل تصرف وفكر، وكيف يكون الحفاظ على تراب الوطن واجبا مقدسا قبل أن يكون شعورا عاطفيا.
في هذه المدرسة، لم ندرس التاريخ مجرد سرد للأحداث، بل تعلمنا أن كل لحظة تضحية في سبيل الوطن هي درس خالد في العطاء والمبادئ.
هذه الفلسفة هي التي غرسها فينا زعماء وعظماء الوفد، الذين لم يكتفوا بالكلام عن حب الوطن، بل كانوا يقدمون نماذج حية في الالتزام والعمل من أجل مصر، فتجسد حب الوطن في أفعالهم قبل كلماتهم، ومن هنا تعلمنا أن الوطنية ليست شعارات، بل سلوك وممارسة مستمرة.
ما أذهلني في موقف الأزهر في 1948 هو كيف استطاع أن يجمع بين الدين والوطنية في إطار واحد، بحيث تصبح الفتوى ليست مجرد حكم ديني، بل دعوة حقيقية للمواطنين لمساندة الحق ودعم الأشقاء.
تجنيد المتطوعين والمشاركة في دعم الجيش المصري لم يكن مجرد تعبير عن الولاء، بل تأكيد على أن مصر، في كل لحظة من تاريخها، تستطيع أن تتوحد خلف قيادتها وشعبها ومؤسساتها عندما يتطلب الأمر، وهنا يظهر الدور الرائد لمؤسسات مثل الأزهر التي لطالما كانت قلب مصر النابض، وسند الأمة في أصعب الأوقات.
أعود اليوم إلى ما تعلمته من مدرسة الوفد، ومن زعماءها الذين علمونا أن حب الوطن لا يقاس بالكلام فقط، بل بالفعل والموقف، هذه القيم تربط الماضي بالحاضر، وتؤكد أن مصر – بفضل هذا الإرث – تظل دائما في موقع الصدارة في الدفاع عن حقها وحق أشقائها.
فنحن اليوم نرى كيف يستمر موقف مصر الراسخ من القدس وفلسطين، تحت قيادة سياسية ودينية موحدة، ينسجم تماما مع ما قرأته في كتب التاريخ وتعلمته من أساتذتي، بأن الوطنية تتطلب تضحية، والتضحية تتطلب ثقة وإيمانا بالحق.
ما يجعلني أتوقف مليا عند هذه اللحظة التاريخية ليس مجرد الإعجاب بما قام به الأزهر، بل الاعتزاز بأن مصر منذ ذلك الحين وحتى اليوم تظل نموذجا للوحدة الوطنية الحقيقية، حيث لا تفرق بين الدين والسياسة والشعب في معركة من أجل العدالة والحق.
تعلمت من مدرسة الوفد أن كل موقف وطني كبير يبدأ من الفرد نفسه، من قراره في أن يكون ملتزما بمبادئه وقيمه، ومن احترامه لتراب وطنه وحبه لشعبه.
وعندما تجتمع هذه القيم الفردية مع إرادة جماعية، تحدث المعجزات، كما حدث في عام 1948، كما يحدث في كل مرة تصمد فيها مصر في وجه التحديات.
هذه الذكرى تجعلني أدرك أن الوطنية ليست مجرد شعور بالانتماء، بل عمل مستمر، وسلوك يومي، والتزام أخلاقي تجاه وطنك وشعبك وأمتك.
لقد علمنا التاريخ أن من ينسى جذوره لن يستطيع الدفاع عن مستقبله، وأن من يفصل بين دينه ووطنه لن يجد قوة حقيقية في مواجهة الظلم.
واليوم، وأنا أتذكر إعلان "الجهاد المقدس" للأزهر، أشعر بالفخر والانتماء، ليس فقط لما قامت به مصر في الماضي، بل بما تواصل القيام به الآن، من دعم للأشقاء ومن صمود في مواجهة التحديات، تحت قيادة سياسية ووطنية ودينية متماسكة.
في النهاية، أستطيع القول بكل يقين أن ما تعلمته من مدرسة الوفد ومن زعمائها العظام قد أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتي وفكري، يجعلني أؤمن بأن حب الوطن ليس مجرد كلمة على ورق، بل حياة تعاش بكل تفاصيلها، وتترجم في كل موقف وقرار.
ومثلما كان الأزهر في يونيو 1948 قلبا نابضا للوطن، فإن كل مصري يحمل هذه القيم هو امتداد لهذا التاريخ العظيم، واستمرار لمبدأ أن مصر، مهما واجهت من تحديات، ستظل دائما موحدة في قلبها، قوية في إرادتها، ومخلصة لشعبها وأمتها.