بعد أن اعتلى الكرسي البابوى
ليو الرابع عشر.. وعد بالرحمة والوحدة فى ظلال «خاتم الصياد»

تولى البابا ليو الرابع عشر رسميًّا حكمه اليوم ، فى حفل تنصيب مهيب فى ساحة القديس بطرس بعد عشر ايام من اختياره، مستهلًا حبريته بنداء قوى للوحدة والتماسك داخل الكنيسة الكاثوليكية، وسط انقسام متجذر تركه سلفه الراحل البابا فرنسيس. ومع بداية حبريته، بدا ليو مصممًا على الموازنة بين احترام التقليد والانفتاح على تحديات العصر الحديث، فى محاولة لرأب الصدع بين الأجنحة المحافظة والتقدمية التى تعصف بجسد الكنيسة ليوحد 1.4 مليار كاثوليكى رومانى. وكشف المتحدث باسم الفاتيكان أن 150 ألف شخص سيحضرون القداس.
وفى لحظة رمزية حملت الكثير من الرسائل، انطلق ليو فى أول جولة له بسيارة البابا المفتوحة وسط ساحة القديس بطرس، محاطًا بعشرات الآلاف من الداعمين الذين توافدوا من كل حدب وصوب. وقد لوح الحضور بأعلام الولايات المتحدة وبيرو، فى تعبير متناقض عن فخر مزدوج، حيث يرى البعض أن ليو هو أول بابا أمريكى، بينما يصر آخرون على أنه أول بابا من بيرو.
الواقع أن جذور ليو تعكس هذه الهوية المزدوجة؛ فهو ولد فى مدينة شيكاغو الأمريكية قبل 69 عامًا، لكنه أمضى سنوات طويلة من حياته كمبشر فى بيرو، حيث حصل لاحقًا على الجنسية البيروفية. هذه الخلفية الفريدة جعلته يتمتع بجاذبية لدى جمهورين مختلفين، وهو ما قد ينعكس لاحقًا على رؤيته لحوار الثقافات داخل الكنيسة.
قداس التنصيب الذى أقيم فى الهواء الطلق شهد تنصيب ليو رسميًا ليصبح البابا رقم 267 للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والملك السيادى لدولة الفاتيكان. وقد جاء انتخابه بعد اجتماع مغلق للكرادلة استمر بالكاد 24 ساعة، فى إجراء اعتبر سريعًا نسبيًا، خاصة بالنظر إلى حساسية المرحلة التى تمر بها الكنيسة بعد وفاة البابا فرنسيس يوم 21 أبريل.
اختيار ليو – واسمه الأصلى روبرت بريفوست – فاجأ كثيرين. فرغم أنه كاردينال منذ عامين فقط، إلا أنه لم يكن من بين الأسماء البارزة عالميًا، ما جعله يظهر بمظهر القائد «الهادئ»، غير المرتبط مباشرة بالاستقطابات الحادة التى قسمت الكنيسة فى السنوات الأخيرة. وقد أشار بنفسه إلى هذا التحدى، قائلًا إنه يتولى مهمته «بخوف».
فى عظته الافتتاحية التى ألقاها بطلاقة باللغة الإيطالية، أكد البابا الجديد التزامه بقضايا العدالة الاجتماعية، وقال إنه سيواصل على الأقل فى بعض الجوانب إرث البابا فرنسيس، خصوصًا فى مكافحة الفقر وحماية البيئة. لكنه فى الوقت نفسه، حرص على تقديم نفسه كحارس أمين على «التراث الغنى للإيمان المسيحي»، مع وعد واضح بعدم الحكم كالمستبد فى إشارة يفهم منها ضمنًا نقد لطريقة سلفه فى الإدارة حسبما وصفت رويترز
ولم تغب دعوة الوحدة عن خطابه، فقد استخدم كلمة «الوحدة» أو «المتحدون» سبع مرات، وكلمة «الانسجام» أربع مرات، فى محاولة لإعادة اللحمة إلى كنيسة انقسمت بفعل تصريحات وخيارات البابا فرانسيس، خاصة تلك المتعلقة بالمسائل الأخلاقية الحساسة كالمثلية والزيجات المثلية، ما أثار استياء التيار المحافظ.
فى إطار رسالته التى تحاكى دور يسوع كـ«صياد للبشرية لينقذها من براثن الشر والموت»، عاد ليو إلى أولوية سلفه، فرنسيس، فى أن تحافظ الكنيسة على رسالتها التبشيرية. لكنه قال إن الأمر «لا يتعلق أبدًا بأسر الآخرين بالقوة، أو الدعاية الدينية، أو بالسلطة»، بل بالمحبة. وكرر البابا الجديد صدى البابا السابق، قائلًا إن على الراعى، مثل بطرس، البابا الأول، أن يكون قريبًا من «الرعية دون أن يستسلم أبدًا لإغراء الاستبداد، مسيطرًا على من أوكلت إليهم».
وبينما كان يخاطب الجموع، ترددت فى خلفية القداس ترنيمة «Tu es Petrus»، أى «أنت بطرس»، فى تذكير رمزى بالاستمرارية البابوية التى تعود إلى القديس بطرس، أول الباباوات. وقد تعمد ليو العودة إلى هذه الصورة التأسيسية حين قال إن على بطرس أن «يرعى القطيع دون أن يسقط فى إغراء الاستبداد»، مضيفًا أنه مدعو «للخدمة لا للتسلط»، فى عبارة لقيت صدى واسعًا بين المنتقدين لسلوك السلطة المركزية فى عهد البابا السابق.
فى إطار الحفل، تسلم ليو رمزين تقليديين للسلطة البابوية: الباليوم، وهو وشاح من صوف الحملان يرمز إلى رعاية القطيع، وخاتم الصياد، الذى يشير إلى القديس بطرس الذى كان صيادًا. ويصنع هذا الخاتم خصيصًا لكل بابا، ويكسر بعد وفاته، فى تقليد يرمز إلى نهاية حبريته وعدم قابليتها للاستمرار.
أما على المستوى الدبلوماسى، فقد شهد الحدث مشاركة دولية بارزة. جلس رؤساء بيرو، وإسرائيل، ونيجيريا إلى جانب رؤساء وزراء إيطاليا وكندا وأستراليا، والمستشار الألمانى فريدريش ميرز، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ضمن صفوف كبار الشخصيات. كما حضرت العائلات الملكية الأوروبية، بينهم ملك إسبانيا فيليبى والملكة ليتيزيا، فى مشهد يعكس المكانة الروحية والدولية للكرسى الرسولى.
الوفد الأمريكى كان بقيادة نائب الرئيس جيه دى فانس، الذى اعتنق الكاثوليكية حديثًا، ويعرف بمواقفه الصارمة تجاه الهجرة، والتى سبق أن أثارت خلافًا علنيًّا مع البابا فرنسيس. وقد رافقه وزير الخارجية ماركو روبيو، وهو كاثوليكى كذلك. وقد شهد الحفل مصافحة خاطفة بين فانس والرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، كانت الأولى منذ لقائهما المتوتر فى البيت الأبيض فى فبراير الماضى، حين تبادلا الانتقادات أمام الإعلام.
يبدأ ليو الرابع عشر رحلته الروحية فى لحظة دقيقة من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وسط انقسامات داخلية، وتحديات أخلاقية واجتماعية خارجية. لكن نبرته المطمئنة، ولغته الواضحة فى التوفيق بين الأصالة والانفتاح، قد تكون كفيلة بفتح صفحة جديدة – صفحة تسعى إلى أن تكون كنيسة المسيح جسرًا لا جدارًا، ووطنًا موحدًا لمن فرقتهم المعارك العقائدية.