في يوم الرابع والعشرين من أبريل عام 2025، أضافت مصر صفحة جديدة إلى سجلها الثقافي المضيء بفوز رواية "صلاة القلق" للكاتب المصري محمد سمير ندا بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية في دورتها الثامنة عشرة.
كان هذا الفوز لحظة فخر حقيقية لكل مصري يرى في الكلمة الصادقة سلاحا من أسلحة النهضة، ولكل مثقف يؤمن أن الأدب هو المرآة التي تعكس وجدان الأمة، وتعيد إليها ثقتها في ذاتها وفي رسالتها الحضارية.
ليس هذا الفوز مجرد إنجاز أدبي فردي، بل هو تأكيد جديد على أن مصر، التي أنجبت طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، ما زالت تحتفظ بريادتها الفكرية والأدبية في العالم العربي، وما زالت قادرة على أن تخرج من رحمها أصواتا جديدة تحمل شعلة التنوير والوعي.
إن فوز رواية "صلاة القلق" هو ثالث تتويج مصري بهذه الجائزة المرموقة بعد "واحة الغروب" لبهاء طاهر و"عزازيل" ليوسف زيدان، وكأن التاريخ الثقافي يعيد تأكيد ذاته مرة أخرى، ليقول إن مصر ليست فقط مهد الحضارة القديمة، بل أيضا مهد التجديد المعرفي والإنساني في زمننا الراهن.
الرواية التي تتناول فترة النكسة وما تلاها من انكسارات نفسية واجتماعية، لم تنظر إلى الماضي كحدث سياسي فحسب، بل كجرح مفتوح في الوعي الجمعي يحتاج إلى قراءة وتأمل.
هذا النوع من الأدب لا يرضي القارئ بمعلومة جاهزة أو سرد خطي، بل يدفعه إلى التفكير، إلى التساؤل، إلى مراجعة الذات، تماما كما فعل أدباء مدرسة الوفد الأوائل الذين فهموا أن الكلمة يمكن أن تكون ثورة، وأن المقال والرواية والقصيدة ليست أدوات للتسلية بل لبناء الوعي ومساءلة الواقع.
منذ نشأة حركة الوفد في بدايات القرن العشرين، كان للثقافة والأدب والصحافة الوطنية دور أصيل في تشكيل الشخصية المصرية الحديثة.
كانت مدرسة الوفد الفكرية ترى في القلم وسيلة للتحرر مثلما كانت ترى في السياسة وسيلة للاستقلال، ومن هذه المدرسة تعلمت أنا شخصيا، ككاتب ومواطن، معنى الانتماء الحقيقي للوطن.
تعلمت أن حب الوطن لا يقاس بالشعارات، بل بالقدرة على الدفاع عن كرامة ترابه بالكلمة والموقف، بالصدق في التعبير عن هموم الناس، وبالإيمان بأن الأدب جزء من معركة الوعي وليس مجرد زخرف لغوي.
كل جيل من المثقفين الوطنيين كان يحمل الراية من سابقه، من مقالات مصطفى كامل وسعد زغلول، إلى روايات توفيق الحكيم وطه حسين، إلى صحف الوفد التي كانت منابر للتنوير لا تقل تأثيرا عن المدارس والجامعات.
وعندما نقرأ اليوم رواية مثل "صلاة القلق"، نجد هذا الامتداد الطبيعي لتلك المسيرة، فالرواية ليست مجرد نص أدبي، بل وثيقة وجدانية تعيد قراءة الذاكرة المصرية من منظور إنساني ووطني في آن واحد.
إنها تضع القارئ أمام ذاته، أمام قلقه الجمعي، أمام أسئلته القديمة التي لم تجد جوابا بعد، وهنا تكمن قوة الأدب الحقيقي: أنه لا يقدم حلولا جاهزة، لكنه يفتح أبواب الأسئلة، ويمنح القارئ شجاعة النظر إلى نفسه بصدق.
الفوز بجائزة البوكر لا يعني فقط تتويج رواية ناجحة، بل هو أيضا تتويج لفكرة أن مصر ما زالت قادرة على أن تبدع رغم كل التحديات، وأن المثقف المصري لم يتخل عن دوره كصوت للعقل والضمير.
في زمن تتراجع فيه القيم أحيانا أمام الصخب، يأتي الأدب ليذكرنا بأننا أمة الكلمة، وأن تراثنا الحقيقي ليس فقط في الآثار والمعابد، بل في الأفكار والعقول.
لقد كانت الجوائز دائما رموزا، ولكن القيمة الحقيقية ليست في الدرع أو الجائزة، بل في ما تعنيه من تقدير للحرية الفكرية، وللإبداع بوصفه فعل مقاومة في وجه النسيان والجمود.
حين أتابع مسيرة الأدب المصري اليوم، أشعر أن جذور الوفد لا تزال حية في تربتنا، تمدنا بالإصرار والإيمان بأن الوطن لا يبنى إلا بالفكر والضمير.
نحن أبناء مدرسة ربطت بين الوطنية والمعرفة، بين الوجدان والعقل، بين الصحافة والأدب والسياسة، في مشروع واحد هدفه أن تظل مصر حرة الوعي، قوية الكلمة، قائدة الفكر، هذه المدرسة لم تخفت، بل تتجدد في كل كاتب شاب يؤمن أن القلم ليس رفاهية، بل واجب وطني.
يأتي فوز رواية صلاة القلق للكاتب محمد سمير ندا في جائزة البوكر العربية 2025 كدليل جديد على استمرار الريادة الثقافية المصرية، امتدادا ل مدرسة الوفد الفكرية التي أرست ملامح الأدب المصري المعاصر.
إن "صلاة القلق" ليست فقط عنوان رواية، بل يمكن أن تكون رمزا لحالة الإنسان المصري الذي يصلي يوميا كي يجد معنى في عالم مضطرب، وكي يثبت لنفسه أن القلق ليس ضعفا بل علامة حياة.
فالأمم التي تشعر وتفكر وتقلق، هي الأمم التي تستطيع أن تنهض من جديد، ومصر - بتاريخها وثقافتها وناسها - ما زالت قادرة على أن تحول القلق إلى إبداع، والهزيمة إلى درس، والتاريخ إلى مستقبل.
لهذا أقول بثقة إن فوز "صلاة القلق" ليس مجرد حدث أدبي، بل هو تذكير لنا جميعا بأن روح مصر لا تموت، وأن مدرسة الوفد ما زالت تخرج أبناءها أوفياء للكلمة وللوطن.