«ندهت النداهة» مقولةٌ شائعةٌ فى الريف المصرى، حيث تلك الأسطورة المصرية عن هذا المخلوق الأنثوى ذي الصوت الرحيم الآخاذ الذى يسحر الرجال والصبية ويناديهم بجانب النهر ليلحقوا به، فتصيبهم اللعنة ويذهبوا إليها بلا رجعة ويغرقوا فى نهر النيل.. تعددت الأساطير عن هذه النداهة وهل هى امرأةٌ جميلةٌ فقط أم هى حوريةٌ تظهر فى البحر لتغوى البحارة وتغرقهم فى المياه؟ لكن تظل خصوصيةُ الأسطورةِ فى أن النداهة مصريةٌ تحيا على ضفاف نهر النيل العظيم، ولكنها تختار ضحاياها فى قدريةٍ وعشوائيةٍ ولا أحد يفلت من صوتها وقوتها.. نداهةُ العصر الماضى كما كتبها يوسف إدريس فى قصة النداهة 1969 كانت المدينةُ والحضارةُ الحديثةُ فى مقابل القرية والبراءة والطبيعة، فقد وقعت فتحيةُ الفلاحةِ المصريةِ البسيطةِ فى أسر تلك النداهة التى خلبتها وأفقدتها براءتها وشرفها وضاعت فى زحمة المدينة وأضوائها الخلابة الساحرة.. أما نداهةُ الألفية الثالثة فهى المال والغواية، هى الطبقاتُ الجديدةُ التى فرضتها علينا الثقافةُ الاستهلاكيةُ منذ أواخر القرن الماضى مع ظهور النفط فى دول الخليج وانكماش الاستعمار العسكرى ثم استبداله بالاستعمار الثقافى الإعلامى الذى روج للثقافة الاستهلاكية والثراء الذى يعتمد على الاختلاف المظهرى الطبقى، فظهرت الماركاتُ العالميةُ أو ما يسمى «البراند» وهو «الخيل المسمومة» التى حرمها الله فى كتابه العزيز.. أن يكون لديك ما يميزك عن الآخر بعلامةٍ مميزةٍ فيما تقتنيه، وتكابر الأغنياء والطبقة الوسطى فى التظاهر والتميز عن طريق إنفاق آلاف الجنيهات والدولارات ليظهروا ثراءهم وتفوقهم المالى عبر هذه الماركات خاصة أهل الخليج، وانتقلت العدوى إلى البلدان الأخرى حتى دول شرق آسيا وأفريقيا، لم ينجو إلا أوروبا القديمة التى تعرف وتدرك أن التميز ليس بالماركات والعلامات التجارية ولكن بالعلم والعمل والثقافة.. انتصرت النداهة وندهت ملايين البشر على سطح هذا الكوكب إلى أن جاءت الحرب التجارية الأخيرة بين أمريكا والصين.. فبدأت تظهر الحقائق وتنكشف الخفايا عن حقيقة هذه الماركات التجارية والتى تصنع فى الصين ودول شرق آسيا وبعض الدول الأفريقية لنتفاجأ أنها خدعةٌ كبرى راح ضحيتها ملايينُ من البشر وملايينُ العقول وفسدت أممٌ ومجتمعاتٌ وهى تلهث وراء حلم امتلاك واقتناء تلك العلامات التجارية سواء من قبل النساء أم الأطفال أم المراهقين أم حتى الرجال الذين تباروا فى التميز والتباهى بأنواع الساعات وماركات المنظرات والأحذية وعلامات السيارات كما النساء بالحقائب والأحزمة والملابس والصغار بأنواع الهواتف والملابس الرياضية وكل هذا ما هو إلا نداهةُ العصر الوهمى الخادع الذى خدع الملايين وقسم البشر طبقاتٍ وفق ما يرتديه أو ما يملكونه من علاماتٍ وماركاتٍ وليس ما يحققونه من إنجازاتٍ وأعمال.. النداهةُ ندهت وسلبت مجتمعاتٍ حريتها وقوتها وحولتها إلى مستهلكٍ مدينٍ مقترضٍ ولم ينجو من سحرها الخادع إلا من عرف أن التميز والأفضلية بالعمل والعلم والجهد والكد والخلق والسلوك والإبداع والإتقان.