عيدهن فى الجنة:
أمهات داخل القبور.. أحياء فى القلوب
سناء: 13 سنة أحتفل بعيد الأم فى المقابر... ورقية: تنتظر الزيارة لشفاء روحها
قرابة 4 ساعات تقضيها «نبوية» أمام المقبرة تخاطب فيها والدتها المتوفاة، تحكى لها أوجاعها كما كانت تفعل فى الماضي، تتخيل وجه والدتها أمامها وتحدثها فى عزلة عن العالم، حتى تطالبها ابنتها الصغيرة بمغادرة المنطقة لتفيق من غيبوبة الحنين إلى الماضي. فوسط مطحنة الحياة ومتاعبها، ومشاهد القتل التى ترسم صورة تشاؤمية لما وصلنا إليه، ورغم القصص المأساوية التى عاشتها العديد من السيدات فى دور المسنين وغيرهن من المشردات فى الشوارع، ما زالت مشاهد الوفاء فى أبهى صورها تتكرر داخل المقابر خاصة فى عيد الأم، مؤكدة أن الحب ما زال يسكن القلوب، حيث يحرص مئات الأبناء على زيارة أمهاتهن المتوفيات فى المقابر وتقديم باقات الزهور لهن فى عيدهن.
داخل مقابر السيدة عائشة تجولنا بالعدسة لنرصد جولات السيدات وقضائهن يومًا فى حب الماضي، بعضهن دخلن فى ساعات من الحديث مع أمهاتهن داخل قبورهن، وقلن إنهن يسمعن الرد فى خاطرهن وكأن أمهاتهن يجلسن أمهامهن ترد على متاعبهن كما كان يحدث فى الماضي.
«سناء»، إحدى الزائرات فقدت والدتها قبل 13 عامًا، تقول: «عمرى ما قصرت مع عيد الأم، كل سنة أزور أمى فى هذا اليوم ، لأنه مهما مر الزمن لا يمكن أن أنسى أمي».
بنبرة ملؤها الحزن والألم على فراق والدتها، قالت «سناء» إنّ زيارة قبر أمها فى مقابر السيدة عائشة أصبحت عادة ثابتة فى حياتها، لا يمكن أن تمضى أى سنة إلا وتكون هناك لتشعر بقربها ولو كانت روحيًا فقط.
«الزيارة بتكون «فضفضة» كأنها أمامى بحكيلها عن حياتي، وأخبار العائلة، وكل شيء».. تستكمل «سناء» حديثها وقالت إنه رغم عدم وجودها، إلا أنى بحس إنها بتسمعني، مؤكدة على أن هذه الزيارة ليست مجرد تذكير بذكرى الأم، بل تتحول إلى نوع من الحوار الداخلى الذى يشعرها بأنها لا زالت على قيد الحياة فى قلبها.
التقطت أطراف الحديث سيدة أخرى تدعى «فاطمة»، فقدت والدتها منذ 5 سنوات، وسردت تجربتها مع زيارة قبر الأم قائلة: «فى كل مرة بكون فى المقابر، بحس بحضور أمى حواليا، حتى لو مش شايفها، بحس إنها فى كل ركن من حياتي. الزيارة دى مش بس واجب، دى حاجة جوايا، بحس إنى لو ما زرتهاش هتكون فى حاجة ناقصة فى حياتي».
المقابر بالنسبة لفاطمة ليست مجرد مكان لدفن الأموات، بل هى نقطة تلاقى روحية تجعلها تشعر بأنها ما زالت تملك نوعًا من التواصل مع والدتها.
تصمت «زينب» قليلًا، وتقول إنها ليست مثل كثير من السيدات لديها القدرة على الوصف والحديث وتبسيط ما تشعر به فى قلبها لوالدتها، خاصة حينما تقف أمام قبرها ولكن هى تشعر بالونس الشديد بجوارها.
وتضيف زينب: «أنا بفضفض لها عن كل شيء، بحكى لها عن الحياة، عن الشغل، عن الأولاد، عن الهموم والمشاكل. بحس فى لحظة معينة إنى مش لوحدي، وكأن أمى بترد عليا. مش ضرورى إن كلامها يكون حروف، بس بحس إنها موجودة فى قلبى وعقلي، بتسمعنى وتفهمني».
تصف «زينب» فى حديثها معنا لحظاتها مع والدتها مؤكدة أنها بمثابة عملية تطهير نفسي، تجد فيها الراحة التى لا يمكن أن توفرها كلمات الآخرين. فهى بحاجة إلى تلك الإجابة الروحية التى لا تأتى من أحد سواها.
«وفاء»، سيدة أخرى فقدت والدتها منذ 20 عامًا، تحكى هى الأخرى عن كيفية قضائها ليوم عيد الأم فى المقابر. قائلة: «الزيارة دى مش مجرد زيارة عادية. فى عيد الأم، بحس إننى مش قادرة أعيش يومى من غير ما أروح لماما. حتى لو كانت زيارة سريعة، أقف أمام قبرها وأقول لها كل شيء، حتى لو ما كانش عندى حاجة جديدة، بحس إنها بتسمعني».
«والله بحس إنها ردت عليا واللى كنت محتاره فيه بقى عندى الرد وكانها بتكلمني».. تستكمل «وفاء» حديثها مشيرة إلي أن هذه الزيارة تُعيد لها بعضًا من التوازن النفسى وتجد فيها إجابات على العديد من التساؤلات التى كانت تقلب لياليها إلى كوابيس.
وأضافت أميرة التى فقدت والدتها منذ 6 سنوات: أنها تجد نفسها فى يوم عيد الأم بتجهز نفسها لتذهب إلى المقابر. مؤكدة: «لما أوقف قدام قبر أمي، بحس بوجودها كأنها جوايا، وكأنها لسه جنبى وبتحضنى بحنان، رغم أنها مش موجودة فى الدنيا. بحكى لها عن كل شيء، وأحيانًا، بحس إن قلبها بيحس بى. مش عارفة أشرح إزاي، لكن الزيارة دى بتخلينى أرتاح نفسيا، وبشعر أنى مش لوحدى فى العالم».
تُعبِّر أميرة عن رغبتها المستمرة فى التواصل مع والدتها حتى بعد وفاتها. فى قلبها فلا يزال هناك ارتباط قوى بأمها، وكل زيارة لقبرها تصبح بمثابة طقس روحى تُجدد فيه وفاءها وحبها لها. يُحيى الحديث مع الأم الذكريات الجميلة التى تعيش داخلها، وتجد فى تلك اللحظات شيئًا من التوازن فى مواجهة الحياة ومصاعبها.
أما سالي، التى فقدت والدتها قبل خمس سنوات، فتعبّر عن مشاعرها قائلة: «فى كل عيد أم، وفى كل مرة أكون واقفة أمام قبر أمي، أشعر أن هناك شيئًا مفقودًا. أحاول دائمًا أن أسمع ردًّا منها، كأنها ما زالت حية فى قلبي. كانت دائمًا تبكى عندما أكون حزينة، وكانت تسألني: ‹إنتى مرتاحة؟›، وكل مرة أقف أمام قبرها، أتمنى لو كانت تسألنى هذا السؤال مرة أخرى. لكن الآن، أصبحت أحاول أن أجيب عليها بنفسى وأقول: ‹أنا مرتاحة، أحاول أن أعيش كما كنتِ تتمنين لى».
تُعبّر هذه الكلمات عن معاناة سالى التى لا تستطيع أن تتغلب على الشعور بأن جزءًا من حياتها غاب إلى الأبد، وأن ذلك السؤال البسيط الذى كانت تسأله لها والدتها «إنتى مرتاحة؟» أصبح يشكل لها أحيانًا مصدرًا للأمل والسكينة وسط صعوبات الحياة.
تستكمل سالى حديثها بحزن شديد قائلة: «أتمنى لو أسمع صوتها، وأسألها عن رأيها، وأتمنى لو أسمع إجابة منها ولو مرة واحدة. لكن الزيارة نفسها تعنى لى الكثير، فهى تعيد لى جزءًا من تلك الأحاديث المستمرة التى كانت بيننا أثناء حياتها».
تكريم الراحلات
حراس المقابر، يقضون حياتهم فى مكان يعبر عن الفقد، عادةً ما يتحدثون عن الوفاء الذى لا يتوقف عند حدود الحياة، كثيراً ما يروى هؤلاء الحراس قصصاً عن زيارات الأبناء لأمهاتهم فى القبور، وخاصة فى عيد الأم، التقينا بأحدهم والذى تحدث معنا عن بعض المشاهد التى تتكرر باستمرار.
قال «عبدالمجيد»، أحد حراس المقابر، إنّ عيد الأم يُعد من أهم المناسبات التى تتوجه فيها العائلات إلى المقابر، حيث يسعى الأبناء، خاصة البنات، إلى تكريم أمهاتهن الراحلات.
البعض يأتى حاملًا الزهور، وآخرون يرفعون أكفهم بالدعاء.. يستكمل حديثه واصفًا مشاهد الزيارات والعائلات التى تطلب من الحارس أن يقرأ بعض الأدعية على قبر الأم مقابل بعض المال.
«الزيارة تكون مليئة بالحنين، وكأنهم يبحثون عن الطمأنينة فى كلماتهم وأفعالهم».. يقول «عبدالمجيد»: «الدموع لا تكف عن النزول، ولكن الحب والوفاء لا يزالان يتجددان فى هذه اللحظات الصادقة.
