تأملات
فى اعتقادى أنه لا يوجد رئيس أمريكى شغل العالم، مثلما شغله الرئيس الحالى ترامب. فمنذ إعادة انتخابه رئيسا قلب الرجل الدنيا رأسا على عقب، وأصبح الكل لا هم له سوى ماذا سيفعل العائد لمنصبه فى البيت الأبيض؟ ذلك أنه إذا كان ترامب تولى رئاسة أمريكا، منذ أربع سنوات، فإنه هذه المرة يبدو أكثر ثقة وأكثر أريحية، حتى ليكاد يخيل للكثيرين ممن اهتموا بسياساته فى فترته الأولى أن ترامب الجديد غير تماما!
دون مبالغة أو تهويل، يمكن القول إن ترامب يعيد للسياسة الدولية سمة كادت أن تختفى ألا وهى تزايد دور العامل الشخصى فى توجيه مقدرات هذه السياسة. على مدار تاريخ البشرية من النادر أن يحرك إنسان حتى لو فى موضع المسئولية أو الزعامة حركة الأحداث، بغض النظر عن اتجاه هذه الحركة إيجابا أم سلبا. لعل أبرز مثالين فى تاريخنا الحديث والمعاصر هما نابليون فى فرنسا، وهتلر فى ألمانيا. ضمن هذه الرؤية يمكن وضع ترامب بما يقدم عليه من سياسات ومواقف ستكون نتيجتها النهائية جوهرية وحاسمة فى مسار النظام الدولى، أو كما قالت صحيفة الجارديان البريطانية أن ترامب يعيد تشكيل العالم.
مرة ثانية لا يعنى ذلك سوى التأكيد على جوهر التغيير الذى من المنتظر أن يتسبب فيه ترامب، دون تحديد اتجاهه وإن كان هو للأسوأ أقرب، على بلاده وعلى العالم. هو استنساخ ولكن بصيغة مختلفة للمثالين اللذين أشرنا إليهما – نابليون وهتلر– واللذين تسببا فى نكبة العالم فى اللحظة التاريخية التى ظهرا فيها.
المفارقة أنه بينما كان طبيعيا أن يتمادى نابليون أو هتلر فيما يعكس رؤاهما وطموحهما، على خلفية أنه لا يوجد من يوقفهما فى ظل أنظمة حكم تفتقد للديمقراطية، فإن ترامب على العكس يفعل ذلك فى ظل نظام بالغ الديمقراطية، والمشكلة أنه يتجاوز هذا النظام وينقلب عليه!
حتى الآن ومع قرب دخول شهرين من توليه مهام الرئاسة، يمثل ترامب بحق ظاهرة يمكن مع تبلورها فى المستقبل أن تتحول لتشكل مذهبا سياسيا فى الحكم، حتى لو لم يكن له أنصار كثر.
لنا ولغيرنا أن نضع أيدينا على قلوبنا مما ينتظرنا مع إيغاله فى الحكم وتوالى الأيام والشهور وهو قابع فى مركزه أو بيته الأبيض. ليس لأن الرجل كلى القدرة، وإنما لأنه رجل «قلّب» – بضم الواو وتشديد اللام – أو مزاجى بمعنى آخر ولديه من روح المغامرة الكثير، فهو لم يتورع عن أن يخوض مشهد مسرحى مع زلينسكى منذ أسبوع قرر بعده تعليق المساعدات لأوكرانيا ولم تمر أيام حتى قرر رفع التعليق، بعد أن حقق هدفه بالطبع.
المشكلة أن كل خصومه ليسوا زلينسكى، متورطون فى حرب دفعتهم إليها الولايات المتحدة التى يرأسها ترامب حاليا، ولذلك فالمواجهات والصدامات الدولية مع أمريكا ستشتعل ويمتد لهيبها إلى قلب واشنطن ذاتها. خذ مثلا موقف كندا المتسم بنوع من الندية وانتهى لفرض رسوم إضافية على صادرات الكهرباء لثلاث ولايات أمريكية وما استتبعه من إعلان ترامب حالة الطوارئ داخل المناطق الأمريكية المتضررة. إذا أضفنا لذلك الذرائع التى يوزعها ترامب هنا وهناك لمزيد من الدول للدخول فى مواجهات مع بلاده سهل علينا تصور حجم عدم الاستقرار الذى سيتسبب فيه ترامب خلال سنوات حكمه أن قدر له أن يستكملها.
كل ذلك يدفعنا لأن نتوقع أن النظام الدولى بعد تولى ترامب سيكون مختلفا تماما عنه قبل وصوله للحكم، وقد تنتهى به مجموعة السياسات التى يتخذها ليكون «جورباتشوف» الأمريكى الذى ينهى أسطورة دولة ظلت لعقود ترأس العالم باعتبارها دولة عظمى!