دوحة المقاصد
العقل هو منحة التشريف الإلهى للإنسان على بقية المخلوقات، به يكون إدراك المعانى والحقائق، جعله الله تعالى مناط التكليف، مفسحاً أمامه باب الاجتهاد، محرراً إياه من ربقة الخرافة والأوهام، ويعد فى الإسلام مصدراً من مصادر المعرفة بعد الشرع− الوحى، وباقتران العقل والشرع تأتى الهداية لبنى الإنسان، فالعقل لن يهتدى إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأساس، والشرع كالبناء، وأنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، لذلك كان أشد أنواع الفاقة عدم العقل، وبتمام العقل يكون الرجحان والرزانة، من أجل ذلك عد حفظ العقل من أهم مقاصد الشريعة الغراء؛ حيث دعت آيات القرآن إلى إعمال العقل والتفكر والتدبر والبحث والنظر فى عشرات الآيات؛ حيث وردت كلمة ∩يعقلون∪ فى 22 آية، وكلمة ∩يتفكرون∪ فى 11 آية، وكلمة ∩يتدبرون∪ مرتين، ومثال ذلك قوله تعالى: ∩قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون∪ (آل عمران:118)، وقوله تعالى: ∩ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب∪ (ص:29)، وقوله تعالى: ∩قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون∪ (الأنعام: 98)، ويقول تعالى: ∩أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها∪ (محمد:24)، ويقول تعالى: ∩إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون∪ (الروم:21)، ويقصد بحفظ العقل تحصيل كل ما فيه إصلاحه ودرء كل فيه إفساده، ولذلك شرع لحفظه من ناحية الوجود أن ينمى العقل بالتعليم وتنمية مهارات التفكير وزيادة التحصيل المعرفى والتثقيف الموسوعى، ويحفظ من ناحية العدم بتحريم ما يتلفه ويعطله، فحرم شرب الخمر والمسكرات والمخدرات وكل ما يغيب العقل ويفسده مهما تغيرت مصادره وأوصافه وأشكاله وطريقة تناوله، ولأن إفساد العقل فى زماننا قد اتخذ وسائل عديدة ومستويات مختلفة، حتى شمل كل النواحى؛ فوجب أن نذكر بأهمية حفظ العقل والعمل على تنميته والاستثمار فيه؛ لأن أهم ما يحمى الثغور الاستثمار فى العقول، ولأن الحروب الآن ليس هدفها السيطرة على الأراضى والمقدرات وحسب بل هدفها السيطرة على العقول وإعادة برمجتها وتحريكها عن بعد، لذلك وجدنا أعداءنا يستهدفون شبابنا بكل الوسائل بالمخدرات والإباحية وبغرس الغلو والتشدد فى عقولهم؛ ليتحولوا إلى أشباح وقنابل تنفجر فى وجه المجتمع، كما رأينا فى العديد من الجرائم المختلفة، لذلك وجب أن ننهض بعقول أبنائنا، وأن نجعل التعليم غير النمطى مسلكنا فى هذا الشأن، وأن ننقله من حفظ المعلومات إلى تثمير الحكمة وثقل المهارات، وأن نحفظ عقولهم من خلال برامج تشترك فيها كل المؤسسات الصانعة لوعى المجتمع؛ لخلق جيل قادر على مواجهة العصر وتحدياته، وأن نهتم بصناعة حضانات للعقول المفكرة والمبدعة، وأن ننشغل بالبناء الفكرى والمعرفى لأبنائنا؛ لأن الحروب القادمة حروب عقول، والصناعات الأهم هى صناعات المعرفة، كما أن التجديد فى كل مناحى الحياة ينبع من العقول الفارقة والمفكرة، فهلا أخذنا من دعوة الإسلام لحفظ العقل منطلقاً لإحداث نهضة عقلية وعلمية وفكرية تنقلنا من مرحلة التوقف الحضارى إلى مرحلة الاستئناف الحضارى لننطلق إلى الريادة الحضارية.