دوحة المقاصد
الإسلام ينظر إلى حياة الإنسان فيراها أغلى ما فى الوجود، لذلك عظّم حرمتَها، وجعل زوال الدينا عند الله أهون من قتل نفس مؤمنة، بل جعل حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة المشرفة، فها هو الرسول عليه السلام − يقف أمام الكعبة قائلاً: ∩ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذى نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه∪، من أجل ذلك جعل حفظ النفس من الكليات الكبرى وضرورة من الضروريات العظمى لمقاصد الشريعة. ويُقصد بالنفس فى هذا المقام: مجمل الكينونة الإنسانية بعناصرها المختلفة، بينما يقصد بحفظها: حفظُ الأرواحِ من التَّلفِ أفرادَا وعمومًا، والمحافظة على حق الحياة الكريمة، وتوفير أسباب القوة للذات الإنسانية، ودفع أسباب الضعف عنها، بحيث تكون على أمثل ما يمكن من وضعٍ لتقوم بأداء مهمتها فى عمارة الأرض وإقامة الفرض؛ وقد ألفت كتب وبحوث فى إعادة ترتيب المقاصد؛ فجعل بعضهم حفظ النفس مُعادلاً لحفظ الدين، بل وقدّم بعضهم حفظ النفس على الدين، بل وعلى كل المقاصد؛ لأنه إن فُوّتت النفسُ فُوتت كل المقاصد، ونحن نقول بتقدم حفظ الدين من ناحية الرتبة، بينما يقدم حفظ النفس من ناحية الترتيب، فيكون حفظ النفس مقدماً على كل المقاصد لأنه جزء من حفظ الدين؛ لأن النفس هى القائمة بالدين من أركان وشعائر..إلخ.
وحفظ النفس يكون من جانبين؛ من جانب الوجود وجانب العدم، ويقصد بالوجود كل ما یحافظ على النفس ویعین على بقائها − ويكون ذلك بحفظ حياة الإنسان فى كل أطوار حياته بغض النظر عن نوعه وجنسه بكل ما يضمن لها البقاء والقوة، بداية من قبل الولادة بالزواج الصالح، ثم بالعناية فى بطن أُمه، ثم بحُسن تسميته إذا وُلد، فالتربية الحسنة والتعليم والتدريب والتنشئة الصالحة، والعناية بالصحة والمسكن والمأكل والمشرب والتثقيف الحياتى والمعرفى.
بينما يقصد بحفظ النفس من جانب العدم درء الفساد الواقع أو المتوقع علیها، ويكون ذلك بإيجاب القصاص أو الدِّية أو الكفارة على من يعتدى عليها كنفوس أو أطراف أو أجزاء، وتحريم الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها.
لذلك جاءت نصوص القرآن قاطعة فى هذا الشأن فقال تعالى: ∩وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ∪ (الأنعام:151)، وقال: ∩وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ∪ (النساء:29)، وقال: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195)، وقال ﴿وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة:179).
والنفس المحفوظة هنا هى النفس المحترمة التى يدخل تحت ظلالها المسلم وغير المسلم − ما دام غير محارب − معاهداً كان أو مُستأمناً، رجلاً كان أو امرأة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ∩لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ∪. (رواه النسائي) وقوله: ∩مَنْ قَتَلَ مُعَاهَداً لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامَاً∪ (رواه البخارى) وفى رواية أخرى: ∩مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ⊇يَرَحْ⊇رَائِحَةَ الْجَنَّةِ (سنن البيهقي)، فيا ليت البشرية الآن وهى تموج بصراعات وحروب دموية ووباء أكل أجساد ملايين البشر أن تتكاتف فى تعظم حرمة وكرامة النفس البشرية.