أمجد مصطفى يكتب: جيل يبدع وآخر يفسد الدراما؟!!
«أبنائى الأعزاء.. شكرًا»
نحن جيل عاش وتربى على المسلسلات المصرية الخالدة، الدراما التى تخاطب القلوب قبل الأعين حيث لم تكن الدراما المصرية يومًا مجرد أعمال تُعرض على الشاشة لتسلية الجمهور، بل كانت مرآة تعكس هموم المجتمع، وتنقل واقعه بأدق تفاصيله، وتناقش قضاياه بأسلوب يجمع بين المتعة والتثقيف. لم تكن مجرد قصص مكتوبة، بل تجارب إنسانية نابضة بالحياة، تجعل المشاهد يشعر بأنه جزء من الأحداث. كانت هناك رؤية واضحة للدراما، تضع الأسرة المصرية والعربية فى قلب الحدث، وتعبر عن قضاياها بمزيج من الصدق والبساطة والواقعية.
فى الماضى، كنا نجد أعمالًا تعكس الحارة المصرية الحقيقية، بكل ما فيها من تلاحم وتفاصيل إنسانية، وكنا نشاهد الريف المصرى كما هو، دون مبالغة أو تشويه، والصعيد بكل عمقه الثقافى والاجتماعى، حيث العادات والتقاليد التى تميز هذه البيئة الفريدة. كانت الدراما تقدم نماذج إيجابية تُحتذى، وتطرح مشكلات الشباب بشكل واقعى، وتساهم فى بناء وعى وطنى يعزز قيم الانتماء والتضحية من أجل الوطن.

وفى قلب هذه الأعمال الخالدة، يأتى مسلسل «أبنائى الأعزاء.. شكرًا»، الذى عُرض عام 1979، لكنه ما زال حاضرًا بقيمه ورسالته النبيلة، وكأنه كُتب لكل العصور. لذلك فهو يعرض هذه الأيام على قناة النيل للدراما، وهو الأمر الذى اعتبره البعض تعويض عن الدراما التى تعرض حاليا، بمناسبة الشهر الفضيل.
المسلسل الذى اشتهر باسم بابا عبده ايضا، ليس مجرد مسلسل درامى، بل هو وثيقة إنسانية واجتماعية عميقة، تتناول العلاقة بين الأب وأبنائه فى مجتمع يتغير بسرعة. يروى المسلسل قصة الأب «عبدالحميد»، الذى يجسده الفنان عبدالمنعم مدبولى، وهو موظف حكومى متقاعد يكرس حياته لأبنائه الثلاثة، ويحاول الحفاظ على ترابط الأسرة فى ظل التحديات التى تواجه كل منهم.و بصراحة شديدة نحن الآن احوج ما نكون إلى تلك النوعية بهذا الاداء الرفيع لتلك الكوكبة من الممثلين.

لم يعتمد على الإثارة المفتعلة أو مشاهد العنف أو الألفاظ الخارجة، بل نجح فى لمس وجدان المشاهدين بصدقه وإنسانيته.
الأبطال: عبدالمنعم مدبولى، فردوس عبدالحميد، يحيى الفخرانى، صلاح السعدنى، فاروق الفيشاوى، محمود الجندى، وآثار الحكيم، وإخراج، محمد فاضل.
دراما الزمن الجميل.. أعمال لا تُنسى
لم يكن «أبنائى الأعزاء.. شكرًا» هو المسلسل الوحيد الذى ترك بصمة فى الدراما المصرية، بل هناك العديد من الأعمال التى صنعت هوية الدراما المصرية، ومنها الشهد والدموع الذى عرض فى أجزاء بين أعوام (1983-1985) ليروى المسلسل صراعًا بين الخير والشر داخل عائلة واحدة، حيث يجسد الصراع بين الشقيقين حافظ وشوقى، أحدهما انتهازى والآخر رجل شريف يعانى بسبب مبادئه. والقصة تتشابه مع أعمال درامية تقدم الآن، لكن شتان الفارق بين التناول المحترم للقصة فى سيناريو وحوار منسوج بشكل يجعلك عضو فى تلك الأسوأ التى يدور فيها الصراع، وربما تتشابه مع ما قد تراه فى مدرسة الحياة التى نعيشها.
الأبطال: يوسف شعبان، عفاف شعيب، ممدوح عبدالعليم، ونسرين.
التأليف: أسامة أنور عكاشة،الإخراج: إسماعيل عبدالحافظ
أما مسلسل «ليالى الحلمية» الذى عرض أيضا فى عدة أجزاء بين سنوات (1987-1995) فهو ملحمة بمعنى الكلمة، ملحمة اجتماعية تمتد عبر عقود من تاريخ مصر، حيث تتناول التحولات السياسية والاقتصادية وتأثيرها على الشخصيات المختلفة، خاصة صراع نازك السلحدار وسليم البدرى والعمدة سليمان غانم ومشكلات الطبقة الكادحة وقصص من الصراع الوطنى، حتى شخصية المعلم زينهم السماحى صاحب القهوة فهو نموذج للرجل المثقف الوطنى الجدع أبن البلد الحر، ناهيك عن باقى الشخصيات الأخرى التى تمثل طبقات مختلفة. لذلك سيظل هذا المسلسل هو علامة فارقة فى تاريخ الدراما العربية.
الأبطال: يحيى الفخرانى، صلاح السعدنى، صفية العمرى، هشام سليم، محسنة توفيق وسهير المرشدى عبدالعزيز مخيون. ولا ننسى صوت محمد الحلو عميد الطرب العربى بحق، والحان ميشيل المصرى وكلمات الشاعر سيد حجاب، القصة والسيناريو والحوار: أسامة أنور عكاشة الإخراج: إسماعيل عبدالحافظ.
عمل درامى آخر يظل فى ذاكرة الوطن العربى هو، «الوسية» (1990) عمل درامى مأخوذ عن السيرة الذاتية لمحمد شكرى، يحكى عن تجربة شاب فى الريف المصرى وسط قسوة الحياة الطبقية. الأبطال: أحمد عبدالعزيز، شيرين، عبدالله محمود. والموسيقى للموسيقار الكبير ياسر عبدالرحمن الذى أحدث نقلة كبيرة بموسيقى هذا المسلسل فى الوسط الموسيقى والدرامى والغناء للمطرب الكبير محمد الحلو، الإخراج: إسماعيل عبدالحافظ.
«المال والبنون» الذى قدم فى أجزاء بين أعوام (1992-1995) فهو أيضا يظل محفورا فى وجدان كل عشاق الدراما، يتناول الصراع بين المبادئ والمال، من خلال قصة أبناء رجل شريف يعانون بسبب التزامهم بالأخلاق، بينما يتمتع أبناء الرجل الفاسد بالثراء والنفوذ.
الأبطال: حمدى وعبدالله غيث وهادى الجيار، ويوسف شعبان، وأحمد عبدالعزيز، وشريف منير، وحنان ترك، وزيزى البدراوى، والتأليف محمد جلال عبدالقوى والموسيقى والألحان ياسر عبدالرحمن والغناء على الحجار أهم من غنى التترات على الإطلاق وصاحب رصيد الأسد فى تترات رمضان القصة والسيناريو والحوار محمد جلال عبدالقوى، الإخراج: مجدى أبو عميرة.
ويأتى مسلسل بوابة الحلوانى الذى قدم فى الفترة من (1992-2001)
ويتناول تاريخ مصر فى فترة بناء قناة السويس، مسلطًا الضوء على الصراعات السياسية والاجتماعية.
الأبطال: على الحجار وشيرين وجدى وعزت العلايلى، سميرة عبدالعزيز، سوسن بدر ومحمد وفيق.
الموسيقى والألحان بليغ حمدى والغناء على الحجار واستكمل العمل موسيقيا الموسيقار عمار الشريعى بعد رحيل بليغ حمدى، التأليف محفوظ عبدالرحمن والإخراج: إبراهيم الصحن.
فى «الليل وآخره» الذى قدم عام (2003)
هو دراما اجتماعية تدور حول الحب المستحيل بين رجل صعيدى وسيدة تنتمى إلى بيئة مختلفة، ويرفض أشقائه الزواج منها، وبالتالى يحدث صدام حول الميراث. الغناء على الحجار والموسيقى والألحان ياسر عبدالرحمن الأبطال: يحيى الفخرانى، هدى سلطان، نرمين الفقى. الإخراج: مجدى أبوعميرة.
وظلت مسلسلات السيرة الذاتية جزء مهم من الدراما المصرية
أبرزها مسلسل قاسم أمين (2002)، حيث يتناول المسلسل حياة المفكر المصرى قاسم أمين، ونضاله من أجل قضايا المرأة والإصلاح الاجتماعى، بطولة كمال أبورية، جيهان فاضل، أحمد خليل، من إخراج إنعام محمد على، هناك أيضا أعمال مثل «الأيام» عن السيرة الذاتية لعميد الأدب العربى طه حسين بطولة أحمد زكى، و«أم كلثوم» بطولة صابرين، تلك الأعمال التى رصدت تاريخ شخصيات مصرية مؤثرة فى حياتنا الفنية والأدبية والسياسية.
الدراما الوطنية كانت أيضا حاضرة بأعمال تركت بصمة كبيرة، على المستوى الشعبى والدرامى أيضا، لا ننسى «دموع فى عيون وقحة» لعادل إمام ومعالى زايد وعزيزة حلمى ومحمود الجندى ومصطفى فهمى، وإخراج يحيى العلمى، والتأليف صالح مرسى، والعمل مأخوذ عن أحد ملفات رجال المخابرات المصرية، وضع الموسيقى الفنان الكبير عمار الشريعى، ثم قدم أيضا مسلسل «رأفت الهجان»، بطولة محمود عبدالعزيز وإيمان الطوخى ومحمد وفيق، المسلسل قدم فى عدة أجزاء وإخراج يحيى العلمى، قصة صالح مرسى، وهذان العملان تحديدا أحدثا رد فعل كبير، ليس داخل مصر فقط لكن داخل الوطن العربى كله، وحتى الآن يعرضا فى شهر أكتوبر من كل عام، لأنهما يمثلان نموذج للدراما الوطنية التى تعيش فى الوجدان، وهى مثل المعادن النفيسة تزداد قيمتها مع مرور الزمن.
** عندما كان للموسيقى أهمية ودور
ولأننا كنا نعيش زمن العمالقة لذلك كان صناع الدراما يعون أهمية كل عنصر من عناصر الدراما ومنها الموسيقى التصويرية، التى تعد البطل الخفى فى نجاح الدراما،حيث لعبت الموسيقى التصويرية دورًا محوريًا فى نجاح الدراما المصرية، حيث لم تكن مجرد خلفية موسيقية، بل عنصرًا دراميًا يثرى المشهد ويضيف له عمقًا شعوريًا.
لعبت الموسيقى التصويرية دورًا محوريًا فى نجاح الدراما المصرية، حيث كانت تضيف بُعدًا شعوريًا يعمق من تأثير المشاهد، ولا يمكن أن ننكر هناك عدد من الموسيقيين صنعوا تاريخ طويل للموسيقى من خلال مشاركتهم فى الدراما، ويحسب لهم أنهم جعلوا من الموسيقى بطل ينافس نجوم التمثيل، وهنا اسماء بحجم عمار الشريعى وياسر عبدالرحمن ومحمد على سليمان وجمال سلامة كان الجمهور ينتظر وجودهم كما ينتظر نجوم الدراما.
عمار الشريعى، عبقرى الموسيقى التصويرية، الذى استطاع أن يخلق حالة وجدانية خاصة بكل عمل، حيث كان يمزج بين الشرقية التى تربى عليها وبين لمساته الخاصة، مما جعل أعماله تحفر مكانًا خالدًا فى ذاكرة المشاهدين.
ياسر عبدالرحمن، أحد أهم المبدعين فى مجال الموسيقى التصويرية، امتاز بأسلوبه الذى يجمع بين التوزيع الموسيقى الحديث والروح الشرقية الأصيلة، هو صاحب فكر موسيقى، جمله الموسيقية دائما مختلفة التكوين حيث كانت ألحانه تضيف إلى الدراما عمقًا دراميًا استثنائيًا، كانت موسيقاه دائما منافس للغة الحوار المكتوب،تنافس البطل فى تعبيراته وكانت دائما عامل يمنح الابطال تأثيرا على الشاشة بدرجة تجعلك لا تقبل المشهد بدون الموسيقى، ياسر اعطى للموسيقى التصويرية دور البطولة فى الدراما، كما أن جملته الموسيقية غير متوقعه وتذهب بك إلى مساحات غير مأهولة.
الموسيقار الكبير محمد على سليمان، قدم أعمالًا متميزة بأسلوب فريد، حيث كان يعتمد على الإحساس العالى والبساطة فى التعبير الموسيقى،دائما موسيقاه مملوءة بالشجن، والأحاسيس التى تملأ حيز كبير فى المشهد الدرامى مما جعله أحد أبرز المؤلفين الموسيقيين فى الدراما المصرية.
جمال سلامة، أحد أعمدة الموسيقى التصويرية فى مصر، استطاع من خلال ألحانه أن يمنح الأعمال الدرامية روحًا خاصة، حيث جمع بين الأصالة والتجديد، وقدم موسيقى مؤثرة لا تزال محفورة فى ذاكرة الجمهور.
وكما للموسيقى دور كان للغناء دور مهم، وهنا لابد من الإشارة إلى اسمين كلاهما أعطى الدراما ثراء كبير، على الحجار ومحمد الحلو، أكثر الأصوات تأثيرا وإبهارا وليس لهما مثيل.
** الدراما بين الماضى والحاضر
فى الماضى، كانت الدراما تقدم قصصًا ثرية وممتعة، وكانت شخصياتها مأخوذة من الواقع، تعبر عن الإنسان المصرى بكل تفاصيله. كانت الحارة المصرية فى الدراما تنبض بالحياة، وكان الريف يُقدم بصورته الحقيقية، دون تهويل أو تجميل، وكان الصعيد يُعرض بجوانبه الإنسانية والثقافية قبل أن يتحول فى الدراما الحديثة إلى بيئة للعنف والصراعات الدموية فقط.
أما اليوم، فقد أصبحت الدراما تعتمد بشكل كبير على مشاهد الأكشن والمبالغات غير المبررة، وأصبحت الشخصيات أحادية البعد، إما أبطالًا خارقين أو مجرمين بلا مبرر. افتقدنا القصص العميقة التى تلامس وجدان المشاهد، وتطرح قضايا الأسرة والمجتمع برؤية إنسانية.
** المسلسلات القديمة.. ذكريات لا تُنسى
كل مسلسل من مسلسلات السبعينات والثمانينات والتسعينات كان بمثابة فرد من العائلة، يشاركنا لحظات الفرح والحزن، ويجمعنا حول شاشة التلفزيون فى المساء، لم تكن مجرد أعمال درامية، بل كانت انعكاسًا للمجتمع، تنقل همومه وأحلامه وقيمه، وأصبحت جزءًا من ذكرياتنا.. عشنا معها وعاشت معنا أيامًا لا تُنسى.
من «ليالى الحلمية» الذى وثّق تاريخ مصر عبر شخصياته، إلى «الشهد والدموع» الذى جسد الصراع بين الخير والشر، ومن «رأفت الهجان» و«جمعة الشوان» الذين ألهبا مشاعر الوطنية، إلى «بوابة الحلوانى» الذى سرد تاريخ مصر من خلال فنها وتراثها، ولا ننسى «الوسية» الذى ألقى الضوء على معاناة الفلاح المصرى، و«المال والبنون» الذى كشف الصراع الطبقى وتأثيره عبر الأجيال، و«بابا عبده» الذى جسّد قيم الأسرة المصرية الأصيلة.
هذه المسلسلات لم تكن مجرد ترفيه، بل كانت مرآة للمجتمع، تعلمنا منها دروس الحياة، وارتبطنا بأحداثها وشخصياتها، حتى أصبحت جزءًا من وجداننا، نستعيدها بحنين ونشعر أنها رافقتنا فى أجمل لحظات العمر.
نحن نعيش عصر جيل أفسد الدراما المصرية، وحوّلها إلى مجموعة من مشاهد «الأكشن»، بعيدًا عن القيم والرسائل التى صنعت مجد الدراما المصرية على مدار عقود.