على فكرة
النداء الذى أعلنه زعيم حزب العمال الكردستانى التركى ومؤسسة عبدالله أوجلان قبل يومين مطالبا حزبه بحل نفسه والقاء السلاح، خطوة تتسم بقراءة واقعية لحجم التغيرات التى طرأت على المنطقة والإقليم والساحة الدولية. توقيت ظهور النداء وثيق الصلة بالتطورات الإقليمية والدولية التى بدأت بهجوم حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية فى السابع من أكتوبر 2023 على مستعمرة جماعية إسرائيلية واحتجاز عدد من الرهائن، مرورا بحرب الإباد الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة وتدميره، وشن حرب أخرى على مدن الضفة الغربية، واغتيال إسرائيل قيادات حماس وحزب الله وإضعاف بنيتهما العسكرية، وسقوط نظام بشار الأسد فى سوريا، وليس انتهاء بالمسعى الإسرائيلى لمحاولة تهجير الشعب الفلسطينى من أرضه، وعودة ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض، ونجاح اليمن المتشدد الذى تدعمه إدارته فى الصعود عبر صندوق الانتخابات، لتشكيل عدد من الحكومات الأوروبية.
من غير المتوقع أن يبقى هذا النداء دون تأثير على الوضع الداخلى فى تركيا وعلى الحركات الكردية فى خارجها. فحزب العمال الكردستانى الذى تأسس بقيادته عام 1978، فى ظل حمى صراع الحرب الباردة بين قطبى العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، قاد حربا مسلحة بدعم من السوفيت بصفته حزبا ثوريا اشتراكيا، لنحو أربعة عقود ضد الدولة التركية للمطالبة بحقوق المواطنة والحفاظ على الهوية الكردية لنحو 20 مليون كردى تركى ووللمطالبة بمنحهم حقوقهم الاجتماعية والسياسية من خلال الحكم الذاتى أو حتى بالانفصال الكامل عنها.
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى ومنظومته الاشتراكية، وتعرض الحزب لعدة انشقاقات يعترض معظمها على حمله السلاح وعلى برنامجه السياسى، كف الحزب عن المطالبة بالانفصال مكتفيا بالدعوة إلى حكم ذاتى، سانده فى الدعوة إليه نظام حافظ الأسد، حيث عاش أوجلان نحو عشرين عاما داخل سوريا، فى وقت اشتداد الصراع الإقليمى الضارى على النفوذ النفوذ عليها، طمعا فى ثرواتها الهائلة من الغاز والنفط، ووفى موقعها الاستراتيجى كهمزة وصل بين العالم العربى ودول الإقليم وبين القارة الأوروبية. ولم تكن تركيا سوى طرف مؤثر فى هذا الصراع.
ولأن السياسة هى بحث دائم عن المصالح، فقد خضع نظام الأسد للضغوط التركية بتسليم أوجلان، مما أجبره على مغادرة سوريا، واعتقال تركيا له أثناء مغادرته الأراضى اليونانية عام 1999 من العاصمة الكينية نيروبى، والحكم عليه بالإعدام، ثم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، بعدما ألغت تركيا عقوبة الإعدام فى سياق سعيها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى.
جاء إعلان أوجلان (75 عاما) لوقف النزاع المسلح وحل الحزب، استجابة لعرض قدمته الدولة التركية إليه قبل نحو أربعة أشهر، بتسوية سلمية للصراع، فى خطوة لا تخلو من ذكاء سياسى وواقعية عملية فى اقتناص فرص اللحظة المناسبة، لاسيما بعد فشل محاولتين سابقتين لمفاوضات من أجل التوصل لتلك التسوية.
ومعنى ذلك أن الرئيس التركى أردوغان يعلم بتفاصيل ذلك الإعلان ويحظى بموافقته. ولعل تصريح نائب رئيس حزب العدالة والتنمية التركى الحاكم، بأن إعلان أوجلان سوف يحرر تركيا من قيودها، يؤكد الدعم الرئاسى التركى لتلك المبادرة. فهى مبادرة تفتح الباب أمام تسوية سياسية، تنهى الحرب الأهلية التى استنزفت موارد الدولة الاقتصادية وجهودها نحو التنمية، وعرضتها لمساءلات غربية عن انتهاكها حقوق الأقليات. فضلا عما خلفته من دمار وأكثر من أربعين ألف قتيل، وفشلها أيضا فى حل المشكلة الكردية.
من بين الدروس العامة المستخلصة من هذا التطور الهام داخل الساحة التركية، أن امتلاك الدولة الوطنية للقوة المسلحة وحصر السلاح فى يدها، ومنحها الحق، طبقا لكل التعريفات السياسية لها، فى ممارسة العنف لبسط سيادتها وتطبيق سلطة القانون، هو الكفيل وحده فى مناخ من الحريات الديمقراطية والاجتماعية، بصون وحدة الدولة وحماية أمنها القومى، وتحقيق المساوة فى نيل الحقوق. ومن بينها، أن الاستقواء بالخارج أيا كانت قوته، ضد الدولة الوطنية من قبل تشكيلات داخلية لتحقيق مكاسب سياسية، طريق مسدود يحفل بالفشل، نظرا لطبيعة التغير فى التحالفات الدولية. وأن الدولة الوطنية القوية والعادلة هى وحدها من تملك القدرة على حماية أمنها وحدودها وحقوق مواطنيها، وقتما تكف عن التجاهل المتعمد لحل منصف وعادل، لحقوق أقلياتها الدينية والقومية والثقافية والاجتماعية. وهو المعنى الذى لخصته القوانين والمواثيق الدولية لضمان الدول لحقوق المواطنة، فيا لها من دورس غالية.