ليلة النصف من شعبان ليلة عظيمة الشأن، جليلة القدر، فضلها عظيم، وفيها فضائل كثيرة، ومن أعجب فضائلها: أنها ليلة يتجلى الله تعالى فيها على العباد فيغفر لهم ذنوبهم، والتجلى الإلهى بالمغفرة لا يحدث إلا فى أوقات وأزمنة معدودة؛ كليلة القدر، ويوم عرفة، وليلة النصف من شعبان، فهى ليلة من الليالى المعدودة من ليالى الدهر التى تشهد حدثًا سماويًّا عظيمًا، وتشهد تجليًا إلهيًّا خاصًّا، وهى ليلة براءة وتأهب ودعاء وتبتل، وهى ليلة مباركة. ومن فضائلها: أن أعمال العباد تُعرض فيها على الله عز وجل، ويطَّلع عليها، ويغفر لهم جميع ذنوبهم وسيئاتهم. والمغفرة فى هذه الليلة لا تشمل ثلاث فئات: المشرك، والمشاحن، وقاطع الرحم؛ فعن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ؛ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» (رواه ابن ماجه وغيره).
فإذا فتشت فى قلبك ووجدت أن فيه أدنى ذرة من الشحناء أو الخصومة أو القطيعة أو الكبر على الناس أو التعالى عليهم؛ فاعلم أن أمثال هذه المعانى القلبية الظلمانية القبيحة تجعلك محرومًا من المغفرة فى يوم التجلى الإلهى وفى يوم الفضل والغفران.
وهى ليلة عرض على الله تعالى، فعرض أعمال العباد على الله عرض يومى، يبينه حديث: «تعاقب الملائكة بالليل والنهار»، وعرض أسبوعى، يبينه حديث: «صيام يومى الاثنين والخميس»، وعرض سنوى، يكون فى ليلة النصف من شعبان؛ حيث يُجمع حصاد السنة ويُعرض فى تلك الليلة.
وهى ليلة دعاء وتبتل وتضرع إلى الله تعالى بقبول أعمال السنة، فكان إحياؤها مندوبًا ومستحبًّا ومرغوبًا فيه، وقد سبق لإحياء هذه الليلة عدد من السادة التابعين، فكانوا فى هذه الليلة يرتدون أفضل ما لديهم من الثياب، ويغتسلون، ويجتهدون فى الطاعة والعبادة والذكر، ثم ما إذا أسفرت الليلة عن إشراق الفجر يصومون اليوم التالى لها.
وسيرًا على نهج هؤلاء السادة؛ نحيى هذه الليلة، ونحتفل بها، ونصوم نهارها، ومن ينكر هذا ويدعى بدعيته فهو مجادل، وهذا الجدل تتجدد إثارته فى كل موسم من هذه المواسم، ويشكل نمطًا من الثقافة المغلوطة التى فيها بقايا تأثر بفكر التيارات المتطرفة؛ نحتفل أو لا نحتفل بالمولد النبوى الشريف.. وبليلة الإسراء والمعراج.. وبليلة النصف من شعبان، ومع كل مناسبة يتجدد الجدل فى إحياء تلك الليالى، والقيام فيها، والاحتفال بها، ولا بد من تجاوز هذا النمط من الجدل الذى يُحوِّل مواسم الخير والنفحات من أوقات تغتنم وتنهض فيها الهمم بالمسابقة فى الطاعات إلى الانشغال بالجدل فى أن نتعبد فيها أو لا نتعبد، ونهنئ بها أو لا نهنئ.
فلا بد أن نطوى صفحة هذه الطريقة الجدلية من التفكير، ونعظم الاستفادة من الأوقات الشريفة الفاضلة، وها هو الإمام البيهقى رحمه الله قد ألف كتاب «فضائل الأوقات»، وهذا الكتاب فيه دعوة لأن يتشوف العبد ويترقب ويهتم باغتنام كل وقت فيه مظنة نفحة إلهية؛ ولو على سبيل التقريب والتقرب.. ولو على سبيل الظن، لأن الإنسان المتشوف يتتبع ويحرص ويسابق لعله يدرك العطايا والنفحات؛ خصوصًا فى الأوقات التى هى مظنة الإجابة، وقد ورد عن ابن عمر رضى الله عنهما، أنه قال: خَمْسُ لَيَالٍ لَا يُرَدُّ فِيهِنَّ الدُّعَاءُ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةُ الْعِيدِ، وَلَيْلَةُ النَّحْرِ» (رواه عبد الرزاق فى المصنف)، ونجد أن الإمام الشافعى رحمه الله قال: «بلغنى أن خمس ليال يستجاب فيها الدعاء: ليلة الجمعة، وليلة أول رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة عيد الفطر، وليلة عيد الأضحى» (رواه البيهقي)، ووجدنا هذا الهدى منقولًا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ حيث كتب إلى واليه على البصرة: «أن اجمع الناس على هذه الليالى الأربعة، وذكر ليلة النصف من شعبان، وليلة أول رجب، وليلة عيد الفطر، وليلة عيد الأضحى».
ونصيحتى للجميع: «عاملوا الناس جميعًا والكون كله بالإحسان والإتقان فى كل شيء، والرحمة فى كل شيء، فسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يتجلى الله فى ليلة النصف من شعبان؛ فيغفر لكل شيء».
ولا بد من وجود مستوى أوَّلِى من تعظيم الشعيرة، ومَلء القلب بالشعور بأن هذه الليلة جليلة القدر، وفيها تجليات إلهية، والله تعالى يقول: «وَمَن يُّعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» (الحج: ٣٢).
فالمفتاح الأوَّلِي: ألا تجعل الأزمان الشريفة الفاضلة تمر بك وأنت فى حال غفلة وتغافل ونسيان، فهذا ليس من تعظيم شعائر الله... فاملأ قلبك شعورًا بأن الأوقات الفاضلة أوقات مهيبة، وفيها حدث كونى عظيم، ويفتح الله تعالى فيها خزائن الرحمة والبركة والطمأنينة والقبول، ويتجلى فيها على عباده... حدث علوى ربانى شريف، املأ قلبك بلحظة سكون وإخبات بين يدى الله تعالى، وقد حكى الله تعالى عن قوم أخذهم بالعذاب، وأخبر سبحانه أنهم استحقوا العذاب لأنهم ما استكانوا لربهم وما تضرعوا له، قال سبحانه: «فما استكانوا لربهم وما يتضرعون» (المؤمنون: ٧٦).
فسارعوا بكل ما تملكون من رضًا وصفح ومسامحة على إزالة كل معانى السلبية والخصومة والقطيعة من قلوبكم، واغلبوا أنفسكم فى هذا اليوم، واصفحوا عن الناس حتى يصفح الله عنكم، وانتبهوا حتى لا تأتى عليكم هذه الليلة وفى قلوبكم بقايا شحناء لأحد.
وزير الأوقاف