إبراهيم دسوقي أباظة، الرجل الذي جمع بين السياسة والأدب، بين الفكر والعمل، بين الوطنية والالتزام العميق بمصر وأهلها، يظل اسمه حاضرا في صفحات التاريخ المصري كأحد أعمدة النهضة الحديثة.
ولد في عام 1889 في قرية غزالة بمحافظة الدقهلية، القرية التي أضفت على اسمه لقب "الغزالي"، وهو الاسم الذي ارتبط به طوال مسيرته.
منذ صغره، بدا أنه مختلف، محاطا بتعليم قوي بدأه في مدرسة الناصرية ثم المدرسة الخديوية، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق، حيث انطلقت أول شرارات نشاطه السياسي والاجتماعي.
لم يكن مجرد طالب يسعى وراء الشهادة، بل كان شابا واعيا بالمستقبل، مدفوعا بحب مصر ورغبة صادقة في خدمتها، مشاركا في المظاهرات ومعبرا عن رأيه في الصحف باسم "الغزالي أباظة"، رمزا لانتمائه العميق لأرضه وقريته.
مسيرته السياسية كانت حافلة بالعطاء، فقد بدأ مشواره مع الحزب الوطني، لكنه لم يكتف بالانتماء، بل اختار الوفد عندما ظهرت دعوات الاستقلال، مؤمنا بأن العمل الوطني الحقيقي يتطلب موقفا عمليا لا مجرد شعارات.
ومع الانقسامات السياسية التي شهدها الوفد، كان دسوقي أباظة أحد القادة الذين انتقلوا إلى حزب الأحرار الدستوريين، ليواصل طريقه في خدمة مصر على أسس من المبادئ الوطنية الصلبة.
كانت مشاركته في الحياة السياسية ليست مجرد تقلد مناصب، بل هي تجسيد لشغفه بالإصلاح والعمل العام، فقد انتخب عضوا في مجلس النواب عن دائرة بردين، ثم أصبح وكيل المجلس، دليلا على ثقة زملائه وقدرته على القيادة والتمثيل الصادق.
أما المناصب الوزارية التي تقلدها، فهي دليل على مدى تقديره وكفاءته، عشر مرات تولى فيها المناصب الوزارية بصفة أصيلة وأربع مرات بالإنابة، شملت وزارات الشؤون الاجتماعية، والنقل، والأوقاف، والخارجية، مساهما في رسم سياسات أساسية لمصر قبل ثورة 1952.
لم يكن مجرد وزير يتابع الروتين اليومي، بل كان رجلا يضيف لمساته على كل وزارة تولاها، يسعى لتطويرها، ويجعل صوت الوطن هو المرجع الأوحد لكل قراراته.
تاريخ وزارة المواصلات على سبيل المثال، يظهر الرجل الذي لم يعرف التراجع أمام التحديات، والذي واجه الأزمات بحكمة وثبات، محافظا على مصلحة المواطنين فوق كل اعتبار.
لكن أباظة لم يكن سياسيا فقط، بل كان أديبا وصحفيا وكاتبا، صاحب مقالات سياسية وطنية في الصحف المصرية، يكتب بإمضاء "الغزالي أباظة" أحيانا وباسم "دسوقي باشا أباظة" أحيانا أخرى.
هذه الكتابات لم تكن مجرد كلمات، بل كانت نوافذ على فكره الوطني العميق، وروحه الملتزمة بقضايا بلده، ولم يكتف بذلك، بل أسس حركة أدبية تحت اسم "جماعة أدباء العروبة"، مما يثبت أنه كان يؤمن بأن الثقافة والفكر لا يقلان أهمية عن العمل السياسي، وأن الوطنية الحقيقية تتغذى على العقل والوجدان معا.
إبراهيم دسوقي أباظة كان جزءا من عائلة أباظة الشهيرة، عائلة ارتبط اسمها بالإبداع والفكر، وكان شقيقه الشاعر عزيز أباظة مثالا على هذا الإرث الثقافي.
وقد استمر هذا الالتزام العائلي بالوطن مع أبنائه، حيث برز منهم الكاتب والصحفي ثروت أباظة، والدكتور شامل أباظة عضو مجلس الشعب المصري، مؤكدا أن حب مصر والخدمة العامة كانت رسالة متوارثة عبر الأجيال.
رحيل إبراهيم دسوقي أباظة في 22 يناير 1953 لم يكن نهاية لمسيرة إنسان أحب وطنه حبا صادقا، بل بداية لتراث يستحق أن يذكر ويحتفى به، إرث من الوطنية الصادقة والعمل المخلص والفكر النير.
إنه نموذج للشخصية المصرية القوية، التي تجمع بين العمل الفكري والسياسي، بين حب الوطن والتفاني في خدمته، بين الانتماء للأرض والانتماء للإنسانية.
ومن قلب هذه الأرض، من قريته البسيطة في الدقهلية، إلى أروقة البرلمان والوزارات، ترك أباظة بصمة لا تمحى، تذكر كل مصري أن الحب الحقيقي للوطن ليس مجرد شعارات، بل عمل متواصل، إرادة صلبة، وعقل واع يقود بخطى ثابتة نحو مستقبل أفضل.