حنان أبوالضياء تكتب: فيلم «صول»... يعزف على المشاعر الإنسانية بقوة التحدى
من النغمة الأساسية الأولى فى السلم العربى وهى نغمة «راست» وهى تقابل نغمة دو فى بداية الأوكتاف الثالث من لوحة المفاتيح الموسيقية تبدأ المخرجة زهرة البودى مشوار حياة صاحب الإرادة المفعمة بالإبداع جابى صهيونى والذى تقدم عنه فيلم «صول»، فالموسيقى هى العنصر الأساسى فى مفردات طبيعة التحدى الذى يغلف شخصيته.
إننا أمام عمل إنسانى لا يميل إلى سرد قصص قوية غالبًا ما تمليها الشخصيات ولها بداية ووسط ونهاية، وتوترات متزايدة وقوس سردى يبقى المشاهد شغوفا. ولكن على العكس إننا أمام المادة الخام للحياة الواقعية لطفل مصاب بالضمور البصرى منذ ولادته. ومشاعر الأم الرافضة الاعتراف بالواقع واحساسها فى نفس الوقت بأنها تريد أن تكون أم قوية تستطيع اجتياز تلك الأزمة مع صغيرها و لديها رغبة فى جعله يملك شغفا فى الأصوات وهو ما يجعل الفيلم أكثر منطقية من أى شيء يمكنه تقديمه عن حياة أم وابنها وتعاملهما مع تلك الأزمة. من خلال اكتشافاته للعالم المحيط، وتعلمه كيف يعبر عن نفسه. فخلق فيلما وثائقيا لا يفى بمعايير السرد الجيد فحسب، بل أيضا يجعلك تعيش التجربة بكل تفاصيلها وتتعايش معها.
ولد الشاب جابى ميشيل صهيونى فى اللاذقية عام 1988 لأسرة رياضية، فوالده ميشيل بطل سوريا لكرة الطائرة لأكثر من مرة ومدرس رياضة، وأمه رنا تدرس رياضة فى البيت. تعلّم عزف «بيانو وكيبورد» من خاله «جورج» ليصبح بعدها مدرس غناء وملحنًا ومؤلف أغانٍ.
إننا أمام قصة حياة جابى صهيونى الموسيقار من ذوى الاحتياجات الخاصة وفنان مبدع وضع بصمته فى عالم الموسيقى باللاذقية فى سوريا... يتسم العمل الذى قدمته المخرجة زهرة البودى ببساطة الطرح، وفى الوقت نفسه اعتمد على قوة درامية مباشرة تجمع بين تقنيات الدراما والفيلم الوثائقى، فخلقت السحر على الشاشة. مع تمكنها من الزوايا المستخدمة، والتعامل معها بعناية شديدة وبطريقة غير عادية لأنه يجب أن يكون له التأثير المطلوب على الجمهور. وركزت على هذا التجسيد البشرى لحياة جابى والمحيطين به لإظهار التعاطف والشعور فى الفيلم الوثائقي. لم تقتصر العناصر المرئية على المقابلات ومتابعة حياة جابى منذ الميلاد، لأن هذا رغم أنه مثيرًا للاهتمام. ولكنها عملت على تقديم أيضا صور مذهلة تعمل على توصيل حكاية جابى وتحديه للظروف بشكل أفضل للوصول إلى مشاعر المتفرج. الصوت السردى هو بالتأكيد شيء يجمعنا مع الفيلم ولا يمكن تجاهله.
ورسخت العلاقة بين المتفرج وجابى، منذ كان طفلا رضيعا حين تكتشف الأم أنه فاقد البصر، وتصبح هى العين التى يرى بها العالم، وتبذل كل طاقتها لكى يتعرف ابنها على الأشياء من خلالها كأنه يرى. ليكتشف مواهبه والتحديات التى سيواجهها من خلال تطوير مهاراته الموسيقية والإبداعية والإدراكية والجسدية والاجتماعية من خلال تعلم الموسيقى.
والاندماج فى البيئات المحيطة، ليصبح ملهمًا للمجتمع الأكبر ويسهم فيه. ليصبح لديه معهد الموسيقى الخاص به، الذى يلبى احتياجات المبصرين؛ حتى يتمكنوا من تطوير مواهبهم الفريدة بشكل كامل.
وأكد الفيلم أن الموسيقى كانت تجربة غيرت حياة جابى صهيونى. وهذا أمر مذهل! خاصة أنها لم تكن الخيار الوحيد له للاندماج مع العالم المحيط، بل إنه كان يشارك فى مباريات البلاى ستيشن معتمدا على حاسة السمع.. ولكن تظل الموسيقى هى ذكرياته المفضلة على الإطلاق.. كما أنها مصدر قصصه الرائعة. فهو يرى من خلال الموسيقى لأنها تربطه برؤيته للعالم بشكل مختلف. وأشار الفيلم إلى أن فاقدى البصر أكثر انتباها للأصوات والموسيقى من أقرانهم من ذوى الإبصار ويتمتعون بموهبة موسيقية فطرية، ليصبحوا موسيقيين متميزين.
لم تتوقف المآسى فى حياة جابى عند فقد البصر، بل تعدي الأمر ذلك، ففى الرابعة من عمره أصيب جابى بمرض نادر فى العظام يصيب واحدا فى المليون. ويقول جابى فى الفيلم «أنا الواحد فى المليون». هذا المرض أفقده القدرة على الحركة، وتعرّض لكسور أكثر من مرة، حتى إنه لم يستطع أحيانا الوقوف أو المشي، ووصل الأمر إلى مرحلة بتر إحدى ساقيه بعد ذلك.
وعمل فيلم "صول" على استعراض حياة جابى المليئة بالألم والوجع والصعوبات التى رافقت وضعه الجسدى وما فرضته عليه من التحديات الكبيرة التى واجهها متحديا مختلف الظروف وأصر على إنجاز حكايته، ليبقى جابى هو الحكاية الحقيقية الرائعة.. مقدما مجموعة من المقطوعات الموسيقية والأغانى بشكل منفرد، وبعضها برفقة عدد من أصدقائه وطلّابه الذين أطربوا الجمهور بأصواتهم العذبة والجميلة ليدخل لقلوب السوريين بالعديد من الأغانى والحفلات والعمل مع أهم الفرق الغنائية وافتتاح معهد للغناء، وساعده على ذلك أنه كان محاطا بالحب من أصدقائه وعائلته.
وهذا العمل الفنى ابتعد عن الصور النمطية فى تقديم تجربة الإعاقة. ومواجهة هذه التحيزات وتحدى المعايير السائدة بمعالجة الفجوات الصارخة من خلال فهم وجهات نظر جابى صهيونى وتحدياته، كشخص يحدد هويته بفهم أعمق للتجربة الإنسانية. الفيلم بمثابة مذكرات شخصية لإنسان يعيش حياة غنية ويتواصل مع الآخرين.
أجمل ما قيل على لسان البطل جابى صهيونى فى النهاية: ليس مطلوبا منك أن تظل بطلا دائما ..أحيانا يجب أن تكون كومبارس».