قضية الثابت والمتغير من أهم القضايا التى يجب الوقوف عندها ببصيرة وأناة وتمييز دقيق، فالنص المقدس ثابت، والشروح والحواشى والآراء التى كتبت أو قيلت حول النص اجتهادات قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص والمستفتين، وما كان راجحًا فى عصر وفق ما اقتضته المصلحة فى ذلك العصر قد يكون مرجوحًا فى عصر آخر إذا تغيرت ظروف هذا العصر وتغير وجه المصلحة فيه، والمُفْتَى به فى عصر معين، وفى بيئة معينة، وفى ظل ظروف معينة، قد يصبح غيره أولى منه فى الإفتاء به إذا تغيّر العصر، أو تغيّرت البيئة، أو تغيّرت الظروف، ما دام ذلك كله فى ضوء الدليل الشرعى المعتبر، والمقاصد العامة للشريعة ؛ وكان صادرًا عن من هو – أو من هم- أهل للاجتهاد والنظر.
وقد قرر العلماء الثقات عددا من القواعد الكلية والفرعية التى تضبط ميزان المفتى، والمجتهد، والمجدد على حد سواء، نذكر منها : «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان»، و«الأصل فى المنافع الإباحة والأصل فى المضار التحريم»، و«لا ضرر ولا ضرار»، و«الضرر يُزال»، «الضرر لا يُزال بضرر مثله أو أكبر منه»، «يُتحمل الضرر الخاص لدفـع الضـرر العـام»، «الضـرر الأشـد يُـزال بالضـرر الأخـف» «المصلحة العامة مقدمة على الخاصة»، و«درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة«، «لا تدفع المفسدة اليسيرة بتضييع المصلحة الكبيرة»، «إذا تعارضت مفسدتان دفعت الأشد بالأخف»، «المشقة تجلب التيسير»، «الضرورات تبيح المحظورات»، «ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها»، «العادة محُكّمة»، «المعروف عرفا كالمشروط شرطا»، «المنكر لا يُزال بمنكر أعظم منه»، «اليقين لا يزول بالشك».
كما قرر العلماء - أيضا - أن كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور , وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة , وعن الحكمة إلى العبث , فليست من الشريعة فى شيء.
وإذا كانت العبادات فى جملتها تدخل فى نطاق الثابت فهى علاقة تتصل بخاصة العبد فيما بينه وبين الله (عز وجل)، فإن الشريعة الإسلامية ومرونتها قد فتحت أبواب المرونة والسعة واسعة أمام معالجة المتغيرات فيما يتصل بمعاملات الناس بعضهم مع بعض بيعًا وشراءً، وإقامة مجتمع، ونظام حكم، بما يحقق المصالح المعتبرة للأفراد والدول معا، فى ضوء الحفاظ على ثوابت الشرع الشريف، على أن يقوم بعملية الاجتهاد والتجديد أهل النظر من العلماء المتخصصين المستنيرين غير المنعزلين عن واقعهم، يقول الإمام الشاطبي (رحمه الله) : بالاستقراء وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، والأحكام تدور على ذلك , فترى الشيء الواحد يُمنَع فى حال لا تكون فيه مصلحة , فإذا كان فيه مصلحة جاز .
ويؤكد الإمام القرافى (رحمه الله) على ضرورة فهم ما كان مبنيا على عادات القوم فى زمانه ومكانه فيقول : إن إِجراءَ الأحكام التى مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد فهو خلافُ الإِجماع وجهالةٌ فى الدّين … بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذى كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذى كنا فيه, وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدِ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذى نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا، ويقول ابن القيم (رحمه الله): وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِى الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، ويقول ابن عابدين(رحمه الله) إن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص وإما أن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأى , وكثير منها يبنيه المجتهد على ما كان فى عرف زمانه بحيث لو كان فى زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا ولهذا قالوا فى شروط الاجتهاد : إنه لا بد من معرفة عادات الناس, فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله.
الأستاذ بجامعة الأزهر