رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مصر احتضنت كسوة الكعبة طوال 1400 عام

بوابة الوفد الإلكترونية

حرفة «القصبجى».. خيوط وأنامل ذهبية رسمت التراث الإسلامى 

 

الحضارة الإسلامية من أروع وأخصب الحضارات الإنسانية خاصة فى الفنون، وقد شكلت الهوية الثقافية الإسلامية بجوانها الجمالية والذوقية وقوة شخصيتها وإخلاص فنانيها الممزوج بالإيمان والتحرر من الذات، فصنعت فن يُحاكى العالم، وعُرف الفن الإسلامى بالإبداع غير المسبوق فى الزخارف ذات الأصالة والتمييز، ومن هذا المنبع الخصب خرجت مهنة «القصبجى» الذى يغزل بخيوطه الحريرية حول قبلة المسلمين مُنذ مئات السنين، فقد احتضنت مصر بمفردها صناعة كسوة الكعبة المشرفة وزخرفتها لما يقرب من 1400 عام، حُملت خلالهم على الأعناق فى احتفالات مهيبة من الفسطاط إلى أراضى الحجاز. 

 

أصل الحرفة وسبب التسمية

مهنة «القصبجى» هى فن التطريز بالقصب- نوع من الخيوط- وهى من الحرف الشعبية التى ارتبطت بصناعة كسوة الكعبة، ويقوم بها مجموعة من الحائكين والخياطين المهرة، إذ يقومون بتصنيع وتطريز الكسوة بالرسومات والآيات القرآنية بطريقة بارزة تدل على فن وحرفية قلما تجد لها مثيلاً، حيث تستغرق صناعتها 12 شهرًا، من خيوط وأنسجة سلك من فضة وطلاء الذهب، إذ كان يتم استخدام 4 غم من الذهب أمام كيلو غرامات من الفضة، من خلال 10 مهرة متخصصين فى هذا الأمر، يجهزون الكسوة بداية من تجهيز القماش ثم غزل الفضة، ثم إعداد الرسومات وصولًا إلى العمل على النول.

ويطلق على من يمارس تلك المهنة اسم «القصبجى» نسبة إلى خيوط القصب التى يستخدمها الحرفى فى تطريز كسوة الكعبة، أو بعض اللوحات الفنية والملابس ذات الخصوصية، وخيوط القصب هى نوع من الخيوط الحريرية التى عليها نسبة طلاء ذهبية أو فضية، فيخرج منها القصب الذهبى والفضى، وتضفى الكثير من الجمال والعظمة على الشكل المُطرز، و«القصبجى» تحديدًا هو المهنى وحِرفى الذى يقود مجموعة من الحيّاكين والخياطين المهرة، يبلغ عددهم 10 أفراد، يجلسون طوال العام لتصنيع الكسوة.

بدأ «القصبجى» مهنته بالتطريز على بدل الملك قديمًا، وعلى بدل الرتب المختلفه فى البلاط الملكى، وأيضاً الزخرفة النياشين والأزرار والأوشحة والكتافات، ويستخدم الآن كدرب من التطور والتعايش فى اللوحات والمفارش وفساتين الأفراح والسوارية، ولكن قبل كل ذلك والأساس فى مهنة القصبجى هى كسوة الكعبة، وكل ما يحدث خلاف ذلك هو محاولات للتطوير لبقاء المهنة.

 

ورشة «القصبجى» الأولى

ترسخت حرفة «القصبجى» لصناعة كسوة الكعبة المشرفة فى مصر بسوق خان الخليلى بالحسين؛ ويُعد الخان واحدًا من أعرق أسواق الشرق، ويزيد عمره على 600 عام، وما زال معماره الأصيل باقيًا على حاله منذ عصر المماليك وحتى الآن، ويُعد حى خان الخليلى بالحسين بجوار جامع الحسين والجامع الأزهر، وهما من أعظم المساجد بالقاهرة، ويوجد به عدد من المعالم الأثرىة الإسلامية القديمة، خاصة الفاطمية، فهو حى يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن هنا نجد أن لكل حرفة سر فى مكان تواجدها، وتُعد ورشة «القصبجى» أولى الورش بالحى، وأعطته صيتًا بين بقية أحياء القاهرة؛ نظرًا إلى أن كسوة الكعبة كانت تخرج من هذه الورشة، وقد برعوا فى صناعة كسوة الكعبة المشرفة وحياكة القماش، وتوارث الأبناء والأحفاد المهنة لنحو 100 عام متتالية، ولا تزال الورشة تعمل فى تصنيع الكسوة لكن بسلك نحاس بدلاً من خيوط الذهب؛ وذلك لكى تبيعها للمسلمين الذين يحتفلون بموسم الحج.

 

الكسوة المشرفه فى المحروسة

أمر عمر بن الخطاب بتصنيع كسوة الكعبة فى مدينة الفيوم باستخدام القماش «القباطى» وكان من أجود خامات الأقمشة فى العالم حينئذ، ثم انتقلت صناعة الكسوة إلى مدينة الفسطاط لتكون القاهرة مركزًا للكسوة لأكثر من 700 عام، على يد الملكة شجر الدر التى أدخلت فكرة «المحمل» وهو «الهودج» عبارة عن جمل الذى يحمل كسوة الكعبة بعد الانتهاء من حياكتها وزخرفتها وخلفه جمال تحمل المياه وأمتعة الحجاج، وخلفه جُند يحرسون الموكب حتى الحجاز، ومن ورائهم رجال الطرق الصوفية، يدقون الطبل ويرفعون الرايات، ويتحرك فى أجواء احتفالية من الفسطاط، وعلى هذا المنوال ظلت مصر محتضنة صناعة كسوة الكعبة المشرفة وتجهيزها لما يقرب من 1400 عام.

فكان الحكائون المهرة يعهدون إلى كسوة الكعبة طوال العالم لتجهيزها، وكان يتحول يوم خروجها من مصر فى عهد الوالى محمد باشا إلى عيد حيث تُقام الأفراح والاحتفالات فى شوارع المحروسة فى محل مرور موكب المحمل، وتكون جميع المصالح الحكومية والدواوين فى إجازة رسمية حينها، ويحضر هذه الاحتفالات الحاكم والوزراء وكبار رجال الدولة، وتمتلئ مناطق الحسين والسيدة زينب بحلقات الذّكر والموالد وتكون الموائد مرصوصة على جانبى الطريق، وكل ذلك احتفالًا بمرور المحمل الشريف.

 

الكسوة فى أراضى الحجاز

ويظل الموكب فى طريقة إلى الحجاز، حيث يتم تغيير الثوب القديم واستبداله بالجديد على جدران الكعبة المشرفة، وهو يوم وقوف الحجاج على عرفة فى التاسع من ذى الحجة، وتستغرق مدة تركيب الثوب نحو ١٣ ساعة، ويقدر محيط الحزام الخاص بالثوب ٤٧ سنتيمتراً، وارتفاع 95 سنتمترًا، فيما تقدر تكلفة الثوب المادية ما بين ٢٢ و٢٥ مليون ريال سنويًا.

وبعد الحج يعود المحمل حاملًا الكسوة القديمة للكعبة، بعد استبدالها بالكسوة الجديدة، وتُقطع أجزاء الكسوة القديمة وتوزع على الخاصة والمقربين من الملك والمؤسسات الرسمية، وما زالت هذه القطع موجودة فى متحف كسوة الكعبة، وبعضها فى قبور العائلة الملكية بمصر، حيث زينوا بها أضرحتهم كنوع من التبرك.

وظلت الكسوة تُصنع فى مصر حتى عام 1381 هجريًا، 1962 ميلاديًا، إلى أن توقف خروج كسوة الكعبة من مصر لأسباب ترتبط بالملفات السياسية آنذاك، وبعد ذلك تولت المملكة العربية السعودية الكسوة وأمر الملك عبدالعزيز آل سعود، بإنشاء دار خاصة لصناعة الكسوة فى حارة أجياد على مساحة 1500 متر مربع، وجلب الملك لتلك الدار أمهر العمال، لينتهى بهذا مشهد كان المصريون يعيشون فيه أجواء روحانية، لم يكن المحمل يخرج بالمصريين فحسب، بل كان يصحبه الحجيج من بلاد المغرب الإسلامى، بما فيه الأندلس وبلاد أفريقيا أو القادمين عن طريق البحر من البلاد العثمانية، وكثيرًا ما كان يأتى أمراء وملوك تلك البلاد قاصدين الحج، وكانوا يجتمعون فى القاهرة ليتوقفوا بتلك المحطة المهمة، وكان سلاطين مصر المملوكية يلقبون بخدام الحرمين الشريفين.

 

ألوان كسوة الكعبة

أن كسوة الكعبة المشرفة تعددت ألوانها حتى وصلت إلى اللون الأسود، فالنبى محمد كساها بثياب يمانية مخططة بالأحمر والأبيض، ثم كساها ابن الزبير فى سنة 64 هــ بالديباج الأحمر، وفى العصر العباسى كُسيت مرة بالأبيض وأخرى بالأحمر، وفى عام 456 هـ كساها سلطان السلاجقة بالديباج الأصفر، وغيَّر الخليفة الناصر سنة 614 هـ لون الكسوة إلى اللون الأخضر، انتهاءً باللون الأسود الذى استمر حتى يومنا هذا.

 

حرفة القصبجى بعد كسوة الكعبة 

كانت قيادة هذه المهنة، تُتوارث أبًا عن جدّ، وبعدما كان «القصبجى» يصنع كسوة الكعبة المشرفة فى مقر المحمل لقرون، ظل يُصنّع ويصمّم الرتب العسكرية الخاصة بالقوات المسلحة حتى تسعينيات القرن الماضى، حيث منعت الورشة من تصميم هذه الرُّتب، عقب محاولة اغتيال الرئيس المصرى الأسبق محمد حسنى مبارك فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

ثم تحولت إلى مهنة لا تتعدى تصنيع لوحات مزخرفة على القماش، ومفارش مزخرفة من القماش، ومشغول عليها آيات قرآنية مصنوعة من خيوط الفضة وماء الذهب، أو بعض الرسومات الأخرى التى يتم تنفيذها بالطلب من المهتمين الذين يقدرون هذا الفن، من المصريين أو غيرهم من بعض الدول العربية والإسلامية.

ومن المتعارف عليه أن جميع الأعمال اليدوية تتطلب مهارة وصبراً ومراحل طويلة حتى تخرج القطعة الفنية متفردة لا مثيل لها، فالقطعة الواحدة تستغرق أشهراً من العامل حتى تنتهى، وهذه الحرفة تحتاج إلى مهارة شديدة فى التنفيذ الذى تتم جميع مراحله بشكل يدوى، معتمداً على الإبرة والخيط واختيار التصميم المناسب الذى قد يكون من اختيارنا أو من اختيار طالب القطعة».